المشكلة هنا ليست في سرعة الإجابة : نعم أو لا! فالفخ يكمن هنا في الأبعاد التي نعطيها لمصطلح “عرب” كي نستطيع فهم السؤال قبل الإجابة عليه. والفخ المُمَوّه هنا هو نفسه فيما لو كان السؤال : هل نحن أتراك؟ أكراد؟ أمازيغ ؟ الخ..
غالباً ما سيرتكب المجيبون بـ ” نعم” أو بـ “لا” نفس المغالطات التي تجعل للجواب أبعاداً ومعانٍ غير واضحة تجعله محور صراع بين المجيبين بدلاً من أن يكون مجرد معلومة بسيطة مشابهة لسؤالنا عن زمرة دمنا! هل زمرة دمك ” آ “؟ هل نحن عرب؟
سيتصور معظم من يجيب على السؤال بـ “نعم” أو بـ “لا” بأن ما يسمى بشبه الجزيرة العربية كان فيها قبائل وكانت القبائل تهاجر من وقت لآخر إلى خارج الجزيرة حتى غطت مساحة ما يسمى اليوم بالوطن العربي الذي نراه في الخرائط. وسيتساءل الفرد ممن يعيش فيما يسمى بسوريا اليوم (أو بغيرها) هل أصله من تلك القبائل أم من قبائل أخرى كانت تعيش قديماً هنا. هذه التصور فيه العديد من المغالطات الخطيرة سنمر عليها واحدة واحدة.
هل ظهر البشر على الأرض على شكل قبائل؟
المغالطة الأولى: هي افتراض أن تاريخ بني آدم على سطح الأرض بدأ على شكل قبائل مستقلة ذات أعراف وعادات وثقافات متضادة. وهذا تصور مضحك فأصل الإنسان من مجموعة واحدة من عائلة واحدة وأكثر من ذلك فبحسب الديانات السماوية العائلة الواحدة من نفس واحدة. فعلى سبيل المثال وفي دلالة رائعة لم يُحدّد القرآن الكريم في سورة “النساء” جنساً للنفس الواحدة في فاتحة سورة النساء “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء”. لقد انبثق الجنس البشري من نفس واحدة ثم من عائلة واحدة ثم من مجموعة من عائلات الإخوة التي تحولت إلى قبائل ابتعدت مكانياً عن بعضها لتنتشر في الأرض. إن افتراض أن أصلنا الأول الذي يميزنا هو كوننا عرباً أو أكراداً أو أمازيغ أو أتراك يتناقض مع أساسيات الإيمان الإسلامي والمسيحي!
الأصل الإنساني ثابت في الدين. والتاريخ يثبت أن البشر على سطح هذه الأرض لم يتوقفوا عن الحركة مبتعدين عن بعض إخوانهم مقتربين من آخرين.
تمايز المجموعات البشرية يرتبط بتطور وسائل المواصلات والتواصل:
التغير سنة الكون ولذا بالتدريج أصبحت كل قبيلة تتمايز عن أختها كلما ابتعدت عنها زمانياً ومكانياً. ولكن بشكل معاكس التقارب والتكامل والاندماج يزداد كلما ازداد التقارب المكاني والزماني، حتى لو اتخذ هذا التقارب طبيعة عنيفة كالحروب! القبائل البشرية لم ينقطع التواصل فيما بينها وخصوصاً في المركز الجغرافي للعالم القديم في المنطقة التي تسمى ببلاد الشام وبلاد الرافدين وتركيا وغيرها من المناطق المحيطة بها.
في الماضي كان قدرة الناس على الانتقال والتواصل بين أقاصي الأرض ضعيفة مما يسمح بتطور ثقافات متباعدة بين الشعوب فنقل المعلومة الواحدة يحتاج لأشهر إن توفر الشخص الذي ينقلها. أما اليوم فنقل المعلومة الواحد إلى كل أصقاع العالم يحتاج لبعض أجزاء الثانية مما يسرّع تكامل الثقافات الانسانية واندماجها بشكل سريع يجعل ارتباطنا بثقافة العصر المشتركة بين البشر أقوى من ارتباطنا بثقافة أجدادنا المحلية التي كانت سائدة في منطقتنا قبل مئات السنين.
هل لدى سكان شبه الجزيرة العربية خصوبة جنسية عالية؟
المغالطة الثانية: بعد افتراض أن التاريخ بدأ بقبائل متباعدة ثقافياً تأتي المغالطة الثانية وهي افتراض أن من كان يعيش في شبه الجزيرة العربية عنده خصوبة جنسية عالية والقبائل هناك عندها قدرة كبيرة على الحركة منذ الأزل وبالتالي أبناء القبائل هناك كانت تتوالد وتتكاثر وعندما تصل إلى أعداد كبيرة تتحرك وتقوم بالهجرة إلى البلدان المجاورة بينما القبائل في تلك البلدان لا تستطيع التكاثر ولا تستطيع الهجرة وتبقى ثابتة في مكانها وبالتالي وبالتدريج طغى العنصر المسمى بالعربي على ما يسمى بالوطن العربي. وهذه مغالطة عجيبة فالغريزة طبيعية عند البشر وقد كان البشر في كل العالم يتكاثرون ويتمازجون وعلى من يدّعي أن عرقاً طغى على عرق آخر أن يثبت بدليل قطعي بحجم هذه المعلومة الخطيرة أن العرق الطاغي يتكاثر بنسبة عالية جداً أو أن العرق الآخر قد تم تهجيره بشكل ممنهج لمناطق أخرى أو تمت إبادته!
حتى باستخدام العين المجردة يمكننا إلى اليوم تمييز ملامح عامة للإنسان في كل منطقة ولكنها متدرجة بحسب الجغرافيا من الشرق للغرب من المغرب إلى مصر إلى بلاد الشام بل إلى الصين دون أن تدل تلك الملامح على أصل جيني مشترك من شبه الجزيرة العربية.
هل كان البشر في كل منطقة عبارة عن كتلة متماثلة منغلقة ومختلفة عن باقي المناطق؟
المغالطة الثالثة: هي أن شبه الجزيرة العربية تحوي منذ الأزل كتلة بشرية واحدة لها ثقافة واحدة موزعة على قبائل وأن بلاد الشام كذلك تحوي منذ الأزل قبائل لها ثقافة واحدة مختلفة عن ثقافة شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا وهضبة الأناضول وغيرها. وهذا كلام مغلوط. فشبه الجزيرة العربية كان فيها قبائل رحل وكذلك بلاد الشام أو بلاد فارس أو شمال أفريقيا أوغيرها. وفي شبه الجزيرة العربية أيضاً كانت هناك حضارات إنسانية قديمة مثل حضارة سبأ وفيها مدن عريقة ذات ثقافة مدنية مختلفة عن الثقافة البدوية كثقافة أهل يثرب (المدينة) وثقافة أهل مكة المكرمة ولهذه الحواضر بنى اجتماعية واقتصادية وسياسية تختلف عن قبائل البدو الرحل. أيضاً حواضر بلاد الشام لها بنى إدارية واقتصادية وسياسية متميزة ولا علاقة لها ببنى القبائل الرحل التي كانت تتنقل في بادية الشام. القبائل نفسها كانت تنتقل من مكان إلى مكان وتعرف بعضها ولها أعراف وتقاليد. نمط الحياة البدوية فيه الكثير من التشابه ولو اختلفت أسماء القبائل وأعرافها وأعراقها وهو مختلف عن نمط الحياة في المدينة التي تتراكم فيها الحضارة الإنسانية. نمط الحياة عند القبائل الرحل العربية والكردية والتركمانية متقارب وهو بعيد نمط حياة الإنسان في المدينة ولو كانت أصوله البعيدة تعود إلى تلك القبائل. والقبائل في المنطقة الواحدة رغم تشابه نمط حياتها قد تتعاون وقد تتصارع وقد تتحالف مع قوة خارجية ضد قبيلة محلية.
العالم يتجه نحو التركز في المدن التي يتقارب نمط الحياة فيها:
لا يمكن لمدينة أن تبني أو تساهم في الحضارة الإنسانية إن كانت مغلقة على نفسها. فالمدن المتحضرة حية طبيعتها الانفتاح ترفِد مدنيتها الموروثة بالمعارف التي تستقبلها وتصوغها بقالبها وتنشرها من خلال تواصل أبنائها مع باقي البشر.
مع الثورة الصناعية حوالي 1800 م ازدادت نسبة من يستقر من البدو في القرى وازدادت نسبة من ينتقل من القرى إلى مراكز المدن الكبرى في مختلف أنحاء العالم ومن ناحية أخرى يزداد نمط الحياة تقارباً بين هذه المدن في مختلف أنحاء العالم. فمثلاً عدد سكان مدينة طوكيو وحدها اليوم يتجاوز عدد سكان سوريا مجتمعين! وإدارة هذه التجمعات العملاقة ليس لعبة بسيطة إنه جزء من تعريفنا لأنفسنا : من نحن؟
هل عرق الإنسان هو الذي يضبط شعوره ومشاعره؟
المغالطة الرابعة: أن عرق الإنسان هو الذي يحدد انتماءه البشري. فكما يشجع معظم الناس فرق كرة القدم في مدنهم كذلك يعتقد من لم يشارك مسبقاً في البناء الاجتماعي المؤسسي أن الانتماء يُبنى على العرق. وعليه فيكفي أن يقنعني أحدهم أنني “عربي” فتستيقظ عندها في عروقي مباشرة مشاعر الانتماء “العربي” وأقتنع بالشعور بالظلم الواقع على العرب وأُشجّع بشكل أبله كل مؤسسة أو حزب أو جماعة تحشر في اسمها كلمة “العربي أو العربية” أو تدّعي الدفاع عن العرب. كذلك يكفي أن يُقنعني أحدُهم أنني “كردي” أو ” حلبي” أو “أمازيغي” أو “شامي” وعندها تستيقظ في عروقي مباشرة مشاعر الانتماء المتناسبة مع اللفظ واقتنع بالشعور بالظلم الواقع على الأكراد أو الحلبيين أو الأمازيغين أو الشوام وأُشجّع بشكل أبله كل مؤسسة أو حزب أو جماعة تحشر في اسمها الطُعم المناسب.
ولكن ما المشكلة في هذا الانفعال العاطفي؟ هذا الانفعال قد يكون مظهراً لخلل كبير في تصورنا لإنسانيتنا. إن تفاعلنا بشكل أقوى مع من هو أقرب إلينا جغرافياً وعائلياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً طبيعي. ليس عيباً أن نتأثر بالألم الإنساني وخصوصاً عندما يصيب من هم قريبون منا، بل ومن حقنا و واجبنا أن نشعر بألمنا وألم من حولنا ونعبّر عنه ونسعى للتخفيف منه ولإزالته.
ولكن من مظاهر صدق إحساسنا ببني آدم من حولنا ألا يكون شعورنا بألم من حولنا انتقائياً. فإنسانية من يشعر بألم الإنسان الأبيض أمامه ولا يشعر بألم الإنسان الأسود إنما هي إنسانية كاذبة. وكذلك كرامة من ينتفض مدافعاً عمن يُظلم لأنه من عشيرته ومتجاهلاً بنفس الوقت الظلم الذي يقع على جاره لأنه ليس من أقاربه وكذلك من يُسعف جاره نتيجة حادث بسيط ويتناسى البشر الذين يتم تعذيبهم من قبل جلادين متخصصين لعدة سنوات على بعد مئات الأمتار من مكان إقامته أو مكان عمله إنسانيته مجروحة ! وستكون إنسانيتنا أرقى عندما يتجاوز إحساسنا بمن حولنا الإحساس بالألم المادي من جوع وعطش وجرح وحرق ليصل إلى الإحساس المعنوي بما قد ينتابهم من ظلم أو قهر..
إن الانفعال بحسب الانتماء “القبلي” يجعل البشرية أقرب إلى القطعان الحيوانية منها إلى المجتمعات الإنسانية. إن أي شخص يشعر أن ابن قبيلته أو مدينته أو عرقه أو لونه ولو كان قاتلاً هو أقرب إليه من “الآخر” ولو كان مقتولاً إنما هو كائن أضلُّ في الميزان الإنساني وفي الميزان الرباني من الحيوان. إن ما يجعل مجتمعاً بشرياً أرقى من مجتمع آخر هو ما يحققه في الميزان الإنساني من العدالة والمحبة والسلام والارتقاء الفكري و ما يؤمنه من احتياجات ومن الرفاه المعنوي لذلك المجتمع ولباقي العائلة الانسانية.
للأسف فإن هذا الانحطاط الجاهلي المبني على العصبية قد شاع حتى أثّر في المفاهيم الدينية. ففي كثير من الحالات بدلاً من أن يحرّر الدينُ الناسَ من العصبية أصبح الانتماء الديني والمذهبي والطائفي عند بعض الناس لوناً من ألوان الانتماء القبلي ويكفي عندها أن يقنعني أحدهم أن انتمائي القبلي هو “مسلم” وعندها تستيقظ في عروقي مباشرة مشاعر الانتماء القبلي “الإسلامي” واقتنع بالشعور بالظلم الواقع على المسلمين وأشجع بشكل أبله كل مؤسسة أو حزب أو جماعة تحشر في اسمها كلمة “إسلامي أو إسلامية” دون البحث عن الحق وعن العدل.
هل العرب هم سكان الوطن العربي؟
المغالطة الخامسة: هي افتراض أن ما يسمى بـ “الوطن العربي” يحوي الناطقين بالعربية أو يحوي التوزع المفترض لقبائل هاجرت من شبه الجزيرة العربية. و الحقيقة هي أن الخريطة المعروفة لـ”الوطن العربي” لا علاقة لها بهذا ولا بذاك. حدود الوطن العربي الموجودة في الخرائط هي حدود الدول التي انضمت لاتحاد جامعة الدول العربية! ولذا فهي ليست حدوداً لتوزع بشري يمثل “العرب” بل هي حدود ساهم المستعمر في رسمها لأنه هو من رسم حدود دولها الأعضاء!
لقد قامت الدول الكبرى المستعمِرة برسم حدود لما يسمى بسوريا وغيرها من الدول في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى والثانية. وُضِعَت تلك الحدود لتضمن مصالح ومخططات الدول المستعمِرة. وبعد هذا التقسيم قامت سبع دول وليدة بتأسيس اتحاد سمته “الجامعة العربية”. هذه الدول هي مصر وسوريا و السعودية والأردن ولبنان والعراق واليمن فتشكلت خريطة الوطن العربي التي توسعت تدريجياً مع انضمام دول أخرى للاتحاد حتى استقر ذلك الاتحاد على مجموعة الدول التي نعرفها واستقرت الخريطة على الشكل الذي اعتدنا عليه والذي يشمل الحدود الخارجية لتلك الدول.
هل “عربي” أو “كردي” أو “أمازيغي” أو غيرها هي كلمات بلا معنى؟
الحديث عن الخلل في معنى “عربي” لا يعني أبداً عدم وجود الكلمة، ولكن الخلل يكمن في موضع توظيفها. فكلمة “عرب” كانت تستخدم بشكل كبير لتدل على سكان البادية وليس على “الأمة العربية الواحدة”. وكلمة “كرد أو أكراد” أيضاً لم تكن تدل على “الأمة الكردية الواحدة”. واللغة العربية تُستخدم في المنطقة لأنها لغة الحضارة الإنسانية للعالم في القرون الوسطى ولشعوب المنطقة ولكثير من شعوب العالم وليس لأنها لغة بعض القبائل البدوية العربية.
وارتباط المثقف من أصول كردية باللغة العربية أقوى بكثير من ارتباط الجاهل من أصول بدوية عربية بهذه اللغة. والمؤلفات التي كان يخطها العلماء في المنطقة عبر التاريخ لم تكن تكتب باللهجة العربية المحلية ولا باللهجة الكردية المحلية ولا باللهجة الأمازيغية المحلية ولا باللهجة التركية المحلية بل باللغة العربية الفصحى اللغة الثقافية لكل هؤلاء. بل إن اللغات الرسمية المحلية كاللغة الفارسية واللغة التركية كانت تستورد المصطلحات التي ولّدها جميع علماء المنطقة باللغة العربية فمصطلح “مدرسة” تستخدمه اللغة الفارسية ومصطلح “مكتب” تستخدمه اللغة التركية. وباعتبار أن اللغة العربية كانت هي لغة الحضارة الإنسانية الأكبر خلال القرون الوسطى فإننا نجد أثر مصطلحاتها بنسب مختلفة في معظم لعات العالم.
أرجو ألا يُفهم من كلامي أن كلمة “عربي” أو “كردي” أو “مسلم” أو “حلبي” هي كلمات بلا معنى ولا أن يُفهم أن مشاعر الإنسان في المغرب أو السودان منقطعة عن أخيه فيما يسمى بسوريا. لا أبداُ الحقيقة هي غير ذلك. الحقيقة أن هذه العاطفة الأخوية ممتدة ولكنها لا تنقطع عند تلك الحدود السياسية. سنتابع إن شاء الله الحديث عن التوظيف المغلوط لكلمة “عربي” وغيرها وكيف تساهم في تعميق نزيفنا وكيف يمكننا المساهمة بحل المشكلة عبر تصحيح المفاهيم التي هي جزء من الحرب في المنطقة.