من لطائف اللغة أن “الحي” والحياة تشتقان من جذر واحد.
في محاولتنا لحل مشكلتنا تساءلنا “من نحن؟” نتابع هنا محاولتنا للإجابة من خلال حديثنا عن الكيانات التي ننتمي إليها سواء أكنا نشعر بذلك الانتماء أو لا. فكما ذكرنا سابقاً علينا فهم هذه الكيانات وإيجاد الانسجام فيما بينها لأن التناقض بين هذه الكيانات في تصوراتنا هو مرض سرطاني يؤدي إلى صدم جهودنا ببعضها وإلى تدميرنا ذاتياً. تكلمنا في المرة الماضية عن “الدار” ونتكلم اليوم عن “الحي” أو “الحارة”.
الحي المتحضر:
ذكرنا مسبقاً أن الوحدة الأساسية في تشكيل المجتمع هي الإنسان الفرد وبالمقابل فإن الوحدة الأساسية في تشكيل المدينة هي الدار (أو البيت). وأكثر من ذلك فالدار هو نقطة الالتقاء الأساسية بين عالمين مختلفين فالدار هي أهم نقطة التقاء بين النظام المجتمعي البشري وبين نظام المدينة الذي هو نواة الحضارة الإنسانية. إذا كانت العائلة تتكون من مجموعة “الناس” المترابطين فإن “الحي” أيضاً يتكون من مجموعة من الدور المترابطة في كيان المدينة وبالتالي فالحي ليس مجرد أبنية متجاورة وإنما هو ايضاً شبكة من العلاقات المعقدة المبنية أساساً على صلة الجوار. ويتعلق تحضر الحي بالقيمة المجردة التي يعطيها سكانه لعلاقة الجوار التي تسمح بتكامل النسيج المجتمعي والتي تتحول إلى مجموعة من الحقوق والواجبات المتعلقة بالجوار بغض النظر عن صلة القربى بذلك الجار أو عن عرق الجار أو دينه. إن للحي المتحضر هوية وإرادة ناتجة عن انسجام سلوك سكانه. والحي المتحضر هو نواة بناء المدينة. إن علاقات الجوار الناشئة عن استقرار الإقامة تحل بالتدريج محل العلاقات القبلية القديمة وتساعد في الحالة الطبيعية على مراكمة الثقافة وبزوغ الحضارات الإنسانية التي نعرفها.
طبيعة الحي في بلادنا في الماضي البعيد والقريب:
في مدننا العريقة كالشام وحلب وبيروت والقدس وغيرها تطورات بالتأكيد خلال التاريخ صلات الجوار بما سمح باستمرار الحياة الداخلية لمعظم هذه المدن العريقة لآلاف السنين. وغالباً ما كان تدمير المدن يأتي نتيجة عدوان خارجي وليس نتيجة تفتت داخلي. والثقافة الإسلامية السائدة ركزت كثيراً على صلة الجوار لدرجة تكاد تصبح فيها الصلة بالجار امتداداً لروابط الأسرة الداخلية داخل الدار حتى أن الجار يقترب (نظرياً) من مستوى وراثة جاره فمن في بلادنا من المسلمين وغير المسلمين لا يعرف الحديث النبوي “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”. وعلى سبيل المثال فلقد بلغ تطور علاقة الجوار عملياً حداً دخلت معه إلى التأثير في حرية التصرف بالعقار المملوك فحق “الشفعة” يجعل (عند بعض المجتهدين) للجار الأولوية في شراء بيت جاره على الآخرين عندما يريد بيعه. لقد كانت هناك في بلادنا صلات جوار مستقرة متكاملة تشهد الأبنية العريقة المنسجمة مع بعضها في الأحياء القديمة عليها. للأسف لم يقم أحد بتعليمنا خلال سنوات دراستنا شيئاً عن تاريخ تلك الصلات مما أضعف صلتنا بماضينا ومما جعل صلتنا بذلك الماضي صلة عصبية قبلية وليست صلة حضارية إنسانية. هذه الصلات التي كانت ضمن الحي تحتاج لبحث تاريخي وتوثيق ممن هم أقدر مني بكثير على ذلك. ولكن ذلك لا يمنع في سياق فهمنا لمشكلتنا من معرفتنا بالخطوط العامة للأحياء في مدن المنطقة.
لقد كانت التقاليد المجتمعية الموروثة تضبط تلك العلاقات المستقرة حيث تضاف إلى علاقات الجوار المباشر علاقات الاشتراك في بعض الأماكن كالمقهى وكالحمام (الذي أصبح اليوم يسمى بحمام السوق أو الحمام التركي) والعلاقات الناتجة عن وجود خدمات مشتركة من فران وبقال ولحام وبقال (وغيرهم) في الحي. بعض هذه الخدمات في المدن القديمة يتعلق بشبكات الخدمات كتوزيع المياه وإنارة الشوارع والصرف الصحي وغيره. كان الناس (غالباً رجال الحي) يجتمعون على الأقل مرة واحدة لصلاة الجمعة (أو لقداس الأحد عند المسيحيين منهم) وغالباً ما كان شهر رمضان مناسبة لاجتماع معظم سكان الحي من الرجال والنساء. نستخدم اليوم كلمة “مختار” للشخص الذي يمثل الحي أو القرية ولا أعرف كيف كان “يتم اختياره ” في الماضي كي يصبح مختاراً. كان في الحي شخصيات موقرة مؤثرة يحترمها الناس تتكفل بحل مشاكله الداخلية وتنطق عند الضرورة باسمه وتتكفل بالضغط الاجتماعي على الشخصيات التي تشذ وخصوصاً من قبل الشباب العناتر. كان من الواجب مشاركة الجار في الأفراح والأتراح. لقد عايشت عندما كنت صغيراً بقايا ثقافة الحي كانت أم جدتي تضيء الشارع بقنديل زيت عندما يمرض شخص في العائلة وكانت جدتي توزع الطعام وبشكل خاص الخبز على الفقراء وكان عمي ينظف الشارع أمام الدار ويكمل الجيران المجاورين.
لقد عايش معظمنا إلى عهد قريب بحسب عمره كثيراً أو قليلاً من بقايا من تلك الثقافة التي تتآكل بشكل سريع جداً مع أن بناءها استمر لقرون طويلة. فأنا أذكر خباز حارتنا رحمه الله وكان اسمه فوزي وندعوه “أبو الفوز” كان يمكن لأبي الفوز أن يعرف بأننا نسينا أن نشتري خبزنا اليوم ويمكن أن يضع لنا جانباً بعض ذلك الخبز. فإن نسي ذلك ومررنا عنده بعد إطفاء الفرن فكان يأخذ رغيفاً من خبزه ورغيفاً من مخصصات كل من عماله كي يؤمن لنا خبزنا اليومي وكان إذا وصلته كمية قليلة من الطحين يمكن أن يجتهد ويطالب معظم بيوت الحي بإنقاص استهلاكهم. ما زلت أذكر أطباق الطعام التي كان الناس دوماً يتبادلونها في الحي وما زلت أذكر كيف كانت تجتمع النساء في أحد البيوت لمناسباتهن الخاصة أو من أجل مساعدة إحداهن في تحضير وليمة كبيرة أو في تجهيز صنف من أصناف “المؤونة”. وما زلت أذكر كيف أن كثيراً من الجارات كانت ترسل صحن “كبة نية” لأبي عندما يقمن بتحضيرها لأنهن يعرفن بأنه يحب تلك الأكلة كثيراً. كان الحي يتحمل تلقائياً مسؤوليته تجاه أبنائه فقد كان فرضاً علينا أن نحمل عن أي مسن يمر في الحارة حمله إن كان ثقيلاً ونخدم جيراننا الذين لم يكن عندهم أبناء قادرين على خدمتهم وكأننا أبناءهم تصل تلك الخدمة إلى حد الكفالة المالية الكاملة لأحد الجيران من قبل من حوله. غالباً من يقوم الطيبون من الجيران بعرض خدماتهم الممكنة على باقي الجيران فمثلاً عندما كان يذهب أحدهم لدفع فاتورة الكهرباء كان يحاول أن يدفع عن باقي الجيران كي يوفر عليهم عناء الذهاب لمركز الدفع.
تطور الحي في الدول المتقدمة:
لقد أدت التغيرات التنظيمية الهائلة في معظم دول العالم (حتى في العديد من الدول التي لا نعدها ضمن الدول المتقدمة) إلى تطوير مفهوم الحي. وبغض النظر على الأخلاقيات الموروثة في كل بلد للتعامل مع الجيران فلقد قام الناس خلال المئة سنة الماضية بشكل خاص بتطوير قوانين متراكمة لتنظيم العلاقات فيما بينهم ضمن المباني وضمن الأحياء وسأعطي هنا أمثلة على ذلك:
لقد تطورت القوانين التي تنظم عمل المؤسسات المتخصصة التي تقوم بإدارة المرافق العامة للمباني الطابقية فمسؤولية المصعد الكهربائي المشترك ومسؤولية تنظيف الدرج ومسؤولية إصلاح باب المبنى المكسور ومسؤولية المصابيح الكهربائية في القسم المشترك من المبنى والتدفئة المركزية للبيوت وغيرها كل تلك المسؤوليات محددة وموثقة ومقننة بحيث يمكن القيام بها من قبل جهات مختصة بحيث لا يضيع الساكن وقته في تنظيمها وبنفس الوقت لا يدفع أكثر مما يتوجب عليه لقاء تلك الخدمات.
تختلف القوانين من ثقافة إلى أخرى وقد تفرض واجبات خاصة على بعض الناس بحيث تتحقق المصلحة العامة لسكان الحي ففي ألمانيا يكلف ساكن البيت الأرضي (بحسب القانون) بتنظيف الثلج المتساقط على الرصيف أمام بيته وعند قيام كل شخص بمهمته يكون كامل الرصيف نظيفاً.
غالباً ما يعبر سكان المباني عن مصالحهم المشتركة من خلال أشخاص منتخبين. مثلاً في إحدى مهام البحث العلمي التي قمنا بها لدى إحدى الشركات التي تؤجر أكثر من ثلاثين ألف شقة في فرنسا اتفقنا مع الشركة على تركيب حساسات الكترونية في مداخل بعض بناياتها لقياس الحرارة والرطوبة وجودة الهواء.. الخ.. تفاجأت بأنه علينا اقناع ممثلي السكان المقيمين بتلك البنايات لدى تلك الشركة بأن هذا العمل مفيد لهم كي نستطيع الاستمرار بمهمة البحث تلك.
تتجاوز قوانين حفظ الجوار كثيراً حدود “عدم الإزعاج الصوتي والمرئي” بكثير لتصل إلى حدود ما هو غير محسوس حيث تفرض بعض القوانين في الاتحاد الأوربي مثلاً ألا تتجاوز قوة الإشارة الصادرة عن موزع الانترنت اللاسلكي في البيوت حداً معيناً كي لا تؤثر على البيوت الأخرى المجاورة ولا تزعجها.
أيضاً في مهام البحث العلمي التي كنا نقوم فيها بجمع المعلومات عن استهلاك أحد الأحياء للماء والكهرباء والغاز وغيرها اكتشفت أن هذه المعلومات لها ملكية!! كانت تلك مفاجأة كبيرة لي كشخص قادم من سوريا. إن ملكية المعلومات المتعلقة باستهلاك الحي تعود لأصحاب الحي أنفسهم ولجمع هذه المعلومات كان علينا أولاً أن نطلب الإذن من ممثلي سكان الحي.
ممثلو أصحاب الحي يكونون أشخاص منتخبون من سكان الحي يقوم سكان الحي بانتخابهم لمدة سنتين ويحق لأولئك الأشخاص اتخاذ القرارات بكل ما يتعلق بالشؤون البلدية لسكان الحي وغالباً ما يكون مستوى التمثيل مؤثراً جداً عندما يكون يشكل الحي بلدة (commune- civil township) حيث يمكن للبلدة أن تجمع الضرائب لنفسها ويمكن أن تحدد آلية تنظيم شوارعها والمناهج المعتمدة في التعليم الابتدائي لأبنائها.. الخ..
لقد عاصرت في فرنسا كيف مانع أحد زملائي إنشاء واحد من أكبر الملاعب في منطقته رغم وجود رغبة من الحكومة الفرنسية المركزية بذلك. حيث قام بتشكيل جمعية كانت تحرض سكان البلدة وتجمع تواقيعهم كي يمنعوا إقامة الملعب على أراضي تلك البلدة مما أخر بناء ذلك الملعب وأدى لحوار مجتمعي طويل وبالنتيجة كان رأي معظم سكان البلدة ورأي رئيس البلدية المنتخب أن يوافقوا على بناء الملعب نتيجة المكاسب التي ستحصل عليها البلدة نتيجة ذلك.
خطورة تطور الحي فيما يسمى بسوريا بشكل معزول عن إرادة سكانه:
إن الصلة القانونية والأخلاقية للجار بجاره هي الأساس العميق لبناء الحي ولبناء المدينة. للأسف فقد تدهورت تدريجياً القواعد الأخلاقية التي تربط الجيران ببعضهم فيما يسمى سوريا في السنين الخمسين الماضية وبالمقابل لم يتم تطوير القوانين بشكل سليم ولم تبن الصلات القانونية الضرورية جداً لتنظيم الأحياء. لقد انحسرت القواعد الموروثة لعلاقات الجوار بشكل خاص في الأماكن التي شهدت تغيرات هائلة يمكن ملاحظة ذلك مثلاً في الأحياء العشوائية الجديدة في المدن الكبرى التي حدث فيها تغير كبير في النسيج المجتمعي.
إن عدم مشاركة المواطن السوري بشكل عملي في الإدارة الحقيقية للحي الذي يعيش فيه جعله لا يقدر أهمية تلك الإدارة لاستقرار الحي وتطويره وجعله عاجزاً عن تقدير كلفة ذلك التطوير وعن فهم آليات التعاون الضرورية لبناء الحي وتطويره والدفاع عنه. وبشكل أكبر فإن عدم مشاركة المواطن في إدارة حيه الذي هو أصغر وحدة يمكنه المساهمة الجماعية في إدارتها جعلته عاجزاً بشكل أكبر عن التعاون الاوسع في سبيل إدارة المدينة والدولة وبنائهما وتطويرهما والدفاع عنهما.
من آثار التطور السكاني والعمراني العالمي على بنية الحي:
لقد ترافق التطور السريع في أشكال المباني في القرن العشرين مع زيادة كبيرة في عدد سكان العالم. ففي ما يسمى الآن بسوريا تضاعف عدد السكان لأكثر من عشرة أضعاف خلال حوالي الستين سنة. هذا التطور كان يحتاج لتطوير في قوانين الجوار منسجم مع ثقافتنا الاجتماعية القديمة المستقرة. للأسف فإن الولادة غير الطبيعية للدولة السورية الناتج عن تقسيم الدولة العثمانية باتجاه المملكة السورية التي تم احتلاها وتفتيتها ثم تشكيل دولة ما يسمى بسوريا الحالية جعل حدود تلك الدولة غير مرتبطة بثقافة اجتماعية تاريخية جامعة مميزة تفصلها عما حولها وغير مرتبطة بوعي مواطنيها للكيانات الإدارية التي تجمعهم. ومع ذلك فقد تم تطوير المؤسسات بشكل سريع بعد استقلال ما يسمى بسوريا وتطوير مؤسساتها بناء على جذور الدولة العثمانية القديمة ثم الفرنسية ثم على جهود أبناء المنطقة من نخبة المثقفين في مختلف المجالات الذين بنوا ثقافتهم في مؤسسات الدولة العثمانية أو المؤسسات التابعة لسلطة الانتداب الفرنسي ثم في مؤسسات الدولة السورية المدنية المستقلة.
من آثار تطور الدولة السورية على بنية الحي:
ولكن الدولة السورية لم تبق دولة مدنية إلا خلال فترة قصيرة وبشكل سريع تحولت إلى دولة محكومة من قبل العسكر. فلقد عانت الدولة السورية بشكل سريع (كما تم شرحه في سلسلة عيد الجلاء) من سلسلة من الانقلابات العسكرية التي خربت مؤسسات الدولة وحولتها إلى هياكل غير مدعومة من وعي الشعب. لقد أدت الانقلابات العسكرية الداخلية المرتبطة أيضاً بالتوازنات العالمية بالنتيجة إلى ولادة مؤسسات سرية لا نعرف عن أهدافها الكثير هي مؤسسات المخابرات تتحكم بالحركة الفعلية لمؤسسات الدولة المركزية هذا التحكم (سواء أأدركت المخابرات أو لم تدرك) منع المؤسسات من تحقيق وظائفها الحقيقية الضرورية لحياة الدولة. لم تتأثر فقط المؤسسات المركزية للدولة، بل تأثرت كثيراً البنية الاجتماعية للحي وللمدينة وللقرية التي تطورت بشكل عشوائي غير مدروس.
لا يمكن أن نقول بأن هناك بنية حي واحدة في سوريا فلا يوجد أية مؤسسة حقيقية تقوم بالدراسة العميقة لبنية الحي أو القرية أو المدينة. حتى في ذهن المواطن السوري لا علاقة لا علاقة لمؤسسات الدولة الخاصة والعامة بالتنبؤ، بل ولا حتى بدراسة التغيرات الاجتماعية التي تحصل في البلاد ومفهوم مؤسسات الدولة فيما يتعلق في هذا المجال في رؤوس معظم الشعب السوري إنما هي مؤسسات سلطوية قد تعطي أو تمنع تراخيص البناء!! وفي ظل ذلك لا أعرف أية دراسات عميقة في هذا المجال ولا يمكنني إلا أن أذكر بعض الملاحظات التي أتمنى أن تتحول يوماً إلى دراسات عميقة يبنى عليها المجتمع بشكل صحي يوماً ما:
لقد استقر صراع الضباط في الجيش بعد انقلاب عام 1963 إلى استقرار قوة الجيش بيد الضباط البعثيين على حساب الناصريين وتم تسليم الإدارات بالقوة مؤقتاً لكوادر حزب البعث الذي حول الصراع المفتعل بين الريف والمدينة إلى قوانين انفعالية غير مدروسة بنى عليها حزب البعث العربي الاشتراكي شرعيته. حيث تمت مصادرة الملكيات الكبرى من معامل وأراض بالقوة من أصحابها وتم وضع مدراء للمؤسسات في كل المستويات من الرفاق البعثيين حيث أصبح الانتماء للحزب بديلاً عن الكفاءات المطلوبة وبعد فترة قصيرة في عام 1966 تم الانقلاب على حزب البعث وسيطر بعض ضباط الجيش الطائفيين على مرافق الدولة بالتدريج عبر شبكات المخابرات وبدأ تعيين كل أصحاب القرار والمدراء في الدولة بدون أي عملية اختيار حقيقية من المواطنين وإنما بناء على ولاء المدراء (الذين كانوا في أغلب الأحيان منتفعين) للمخابرات. وتم وضع رفاق بعثيين جدد مكان الرفاق البعثيين القدماء وأصبح الجميع منتفعين على حساب الدولة التي يقومون بتدميرها وتدمير منافعهم العميقة معها.
البنية الإدارية المحلية المتعلقة بالحي:
بدلاً من تطوير النظام المدني في الريف تم استخدام الرفاق البعثيين من أبناء الريف في السيطرة على المدينة بما فيها مدن سوريا التاريخية القديمة حيث تم حشر البعثيين من ابناء الريف في وظائف الدولة كأعطيات ومن تلك الوظائف “البلديات” مما أثر بشكل كبير على ارتباط الإنسان التاريخي بحيه وبمدينته وأدى في الظروف الحالية إلى عجزه عن فهم الآليات التي يمكنه من خلالها الدفاع عن حيه وعن مدينته ودولته.
يتم على سبيل المثال إدارة الشؤون البلدية لكل حي من أحياء حلب من قبل “القطاع”. يتم تعيين مدير القطاع من قبل السلطات الأعلى دون وجود أية آلية لانتخابه من قبل المواطنين في الحي. وصاحب القرار الحقيقي في التعيينات هي أجهزة المخابرات. وبالتالي يسعى مدير القطاع لإرضاء السلطات والمخابرات التي وضعته كي يستمر في منصبه مما يمنعه من الإدارة المثلى للقطاع بما يخدم حيه وتصبح شبكة الصلات الشخصية هي المؤثرة في قرارات التنظيم في الحي وليست الخطط المدروسة.
عجز سكان الحي عن التعاون لصالح الحي:
إن هذا يجعل ساكن الحي عاجزاً عن التعاون المنظم الواسع مع جيرانه حتى ولو رغب بذلك. فلا يمكن لسكان أحد الشوارع (في الحالة العامة) في سوريا أن يتفقوا على وضع أصص معينة من الأزهار على شرفات منازلهم بحيث يصبح لحيهم شكل عام متناسق وجميل وذلك ليس لأن السكان متخلفين ولا يحبون الجمال، بل لأن ذلك يحتاج لمؤسسة بلدية تجمع إرادتهم ومثل هذه المؤسسة غير موجودة لأن عمل “القطاع” معزول عن إرادتهم الجماعية ولذا فحتى لو قام القطاع بإصدار أوامر لوضع الزهور على الشرفات لن يكون ذلك القرار مدعوماً بإرادة تنفيذ داخلية عند السكان. إن مثل هذا العمل الجمالي الجماعي لا يمكن تنفيذه ولا حتى في “القرداحة” التي تحوي النواة البشرية الأهم المحركة لمؤسسات المخابرات والجيش والمراكز المفصلية التي يسيطر من خلالها ما يسمى “النظام” على الدولة السورية.
إن عجز المواطن عن فهم آلية الإدارة هذه في تخريب حيه تجعله عاجزاً عن فهم السبب العميق لتخلف ذلك الحي وغالباً ما يعيد المواطن السبب بحسب التفسيرات التقليدية الشائعة إلى أن مدير القطاع “ابن حرام”! إن حي الحمدانية في حلب الذي ضربناه كمثل في حلب عندما تحدثنا عن كيان “الدار” الذي ننتمي إليه والذي صممه الروس يحتوي على مساحات هائلة للحدائق فيما بين المباني ومعظم تلك الحدائق لم يكن يعتنى بها ولو تمت العناية بها بكلفة بسيطة لأصبحت جميلة، ولكن ذلك يكاد مستحيلاً فلا يمكن للقطاع غير المنتخب أن يعي أهمية تلك الحدائق ولا يمكن للمواطن الذي لم يشارك باتخاذ قرار العناية بتلك الحدائق أن يكون راعياً إيجابياً لها.
اعتداء السكان على حيهم:
نتيجة تربية طويلة في ظل مؤسسات تسيطر فيها المخابرات على القرارات الأساسية في الدولة بدا معظم الشعب السوري يظن أن القانون هو قواعد يتم فرضها عليه نتيجة قرار أشخاص لا يعرفهم وليس القانون هو قواعد يتعاون مع أقرانه على صياغتها كي تنظم العلاقة فيما بينهم وتضمن مصلحة وسعادة الجميع. نذكر مثلاً على ذلك في حي الحمدانية ايضاً في حلب حيث تضمنت خطة المخابرات في حلب في بداية الأحداث إلهاء الناس من خلال العديد من الإجراءات منها منع الشرطة من الاستجابة لأي شكوى من قبل المواطنين وبنفس الوقت تشجيع الناس (خصوصاً الشبيحة) على البناء بشكل مخالف. طبعاً هذا البناء غير المشروع الذي دعمته المخابرات هو اعتداء على المبنى وهو اعتداء على الحي وهو اعتداء على المدينة. ولكنني رأيت كيف أن بعض الناس التي تم تخريب معنى “الحي” في رؤوسها قد قامت بتوسيع بيتها في الطابق الأرضي على حساب الحديقة المدروسة أمام بيته وكيف قام الجيران فوقهم في المبنى بالبناء فوق بنائهم المخالف وهكذا حتى امتدت البناية خمسة أمتار على حساب الحديقة من إحدى الجهات كما قام الجيران من كل أطراف الحديقة بالتهامها بنفس الطريقة وهم لا يدركون بأنهم يلتهمون أنفسهم فلقد أضاعوا المساحة الخضراء من حيهم عندما قبلوا بأن يسرقوا حيهم وأضاعوا سلامة أبنائهم عدما قبلوا بأن يتناسوا جرائم القتل التي تستهدف إخوانهم.
مثال عن انتكاس البنية التاريخية لأحد الأحياء:
أذكر هنا كمثال ايضاً التطور المقلوب الذي حدث في حي كنت أعيش فيه في سيف الدولة في حلب. حيث قام موظفو البلدية الذين وضعتهم المخابرات بتلقي رشى للقبول لهدم بيوت الحارة التاريخية القديمة الجميلة وبناء مبان ضخمة مكانها. لقد لجأ تجار البناء لهذه الحيلة نتيجة جمود عجيب في مؤسسة البلدية التي توجهها المخابرات ولا ينتخبها الناس. لقد كان سكان حلب بحاجة للسكن ولا يوجد أية دراسة علمية لاحتياجات سكان حلب المتزايدة لمئات آلاف البيوت وكان البناء ممنوعاً خارج مباني المدينة!! خلال عشرين سنة تدمرت حاراتنا القديمة وعلاقة سكانها الطيبة. خلال تلك الفترة كنا نعيش وكأننا في ورشة بناء وحل أكثر من خمسة آلاف نسمة محل حوالي مئتي نسمة في أبنية متداخلة لا يرى معظمها زرقة السماء ولا خضرة الأشجار في مبان لم يعد فيها شخصيات مرجعية توجهها ولا قواعد قانونية تضبطها. لقد أدت زيادة السكان إلى زيادة هائلة في الضجيج اليومي وفي كميات القمامة المرمية وإلى قلة احترام الجيران لبعضهم وإلى زيادة استهلاك الكهرباء والماء بالاعتماد على نفس الشبكات القديمة وإلى تدني المستوى الأخلاقي القديم في الحارة.
لقد لجأت شركة الكهرباء إلى حجز غرفة ضمن المبنى السكني مجاور لغرف نوم الناس لتستخدمها كمحول كهربائي ضخم من التوتر المتوسط إلى توتر المدينة مع ما يحمل ذلك من خطر على الناس. لقد اشترى الطابق العلوي من بنايتنا أحد تجار البناء الذي اشترى ذلك الطابق ليبني فوقه بشكل مخالف للقانون. استطعنا في الظرف العادي وبناء على بعض الصلات الشخصية والقواعد القانونية منعه من البناء قبل الأحداث بعدة سنوات. أما مع بداية الأزمة ومع تشجيع المخابرات للشبيحة بالبناء المخالف وإصدار الأوامر للشرطة بعدم التدخل فلقد أحضر هذا الجار أدوات البناء ليباشر البناء المخالف. استدعينا الشرطة فلم تستجب. قام أخي بالطلب من أحد أصدقائه الشيعة الذين لهم صلة بالمخفر بالتوسط لدى الشرطة الذين حضروا وقاموا بتنبيه عمال البناء الذين توقفوا عن العمل وذهبوا، ولكن الشرطة لم تسجل أي محضر رسمي التزاماً بالأوامر التي تلقتها بعدم الالتفات لمشاكل المواطنين. عندها نزل جارنا وأحضر بعض الزعران وأصبح يشتمنا ويقول ” الرئيس بشار الأسد يسمح لنا بالبناء المخالف غصباً عنكم سأبني.” وذهب لإحضار عمال جدد. طبعاً جارنا كان يستخدم التصريح العام الذي أعطته المخابرات لنشر الفوضى. من معرفنا أيضا كانت رئيسة البلدية بالوكالة التي أرسلت دورية لإيقاف جارنا عن البناء وكذلك أحد طلابي الذي له صلة بمدير القطاع الذي أرسل أيضا دورية وايضاً أحد المعارف في نقابة المهندسين الذي أرسل دورية وبالنتيجة تم منع جارنا من البناء ليس لأنه يدمر الحي وليس لأنه يخالف القانون ولكن بسبب شبكة المعارف وهذه هي المصيبة الكبرى. جارنا لم يكن يعي خطورة عمله وعمل أمثاله على ابنه الذي تم سحبه إلى خدمة الجيش في بداية الأحداث وربما لم يعد حتى الآن. طبعاً تعرض حينا للقصف بالهاون من قبل ما يسمى بالجيش السوري فاضطررنا لمغادرته وعندما عدت بعد فترة لأطمئن على بيتنا كان بيت جارنا محترقاً.
جمود القوانين والدراسات المتعلقة بالحي:
بسبب تلك البنية الإدارية أيضاً لم تتطور القوانين المناسبة لتنظيم الأحياء. حتى القوانين السورية الموجودة (مثل إمكانية انتخاب ممثل عن المبنى) لا يعرفها الناس ولم يتدربوا على استخدامها ولذا تبقى المشاكل البسيطة دوماً متكررة وبدون حل فكثير من المباني في سوريا تعاني من عدم وجود آلية لحل القضايا البسيطة مثل: شطف الدرج ومشكلة مناشر الغسيل التي قد تؤذي الجيران ومشكلة المصعد الكهرباء والإضاءة المركزية ومشكلة دهان المبنى.. الخ.. لقد تغيرت أحجام وأشكال المباني بشكل أثر على بنية المجتمع السوري بشكل لا يدركه أحد ولا يمكننا توقعه. لقد لاحظت الدراسات الاجتماعية في فرنسا مثلاً أن المباني الاجتماعية الضخمة التي بنتها قبل عشرات السنوات لحل مشكلة سكن العمال لها أثر سيء على الصلات الاجتماعية فقررت إعادة تشكيل تلك المباني وإعادة تقطيعها بحيث تتحول إلى ما يشبه البنايات الصغيرة المستقلة. كما قامت بهدم بعض تلك المباني وغيرت في ديكورات بعضها لما لذلك من أثر كبير على السكان.
انتكاس بنية الحي المدني إلى بنية قبلية:
لقد عملت أجهزة المخابرات ايضاً وخلال سنوات طويلة على الاعتماد على البنية العشائرية والقبلية للتحكم بالمنظومة المجتمعية في سوريا خلال عشرات السنوات مما أدى إلى انتكاسة في بنية المدينة وتكريس بعض البنى القبلية والطائفية فيها. فمثلاً في بعض أحياء حلب مثل حي “باب النيرب” وبشكل مقلوب لبنية المدينة التاريخية تم تطوير بنية قبلية لعشيرة العساسنة والبكارة ولعائلة بري وغيرهم ضمن المدينة تقوم المخابرات بتسهيل أمور شبكة من المجرمين منهم ضمن مؤسسات الدولة مقابل أن يساعدوها في السيطرة على تلك المؤسسات. حيث تم حشر تلك الشخصيات كممثلين عن مدينة حلب في البرلمان السوري وتم استخدام عصابات تديرها تلك الشخصيات كشبيحة يقومون بضرب المتظاهرين بالهراوات وأحياناً بالسكاكين تحت إمرة المخابرات الجوية في بداية التظاهرات في المدينة.
انقسام المجتمع نتيجة انقسام الأحياء:
طبعاً كان يظهر بعض التنظيم في المدينة غير المدعوم بالقانون المدروس فكثير من مباني الأغنياء الجدد كانت تحوي على أبواب معدنية ولها “بواب” يخدم عائلات السكان وكثيراً ما كان هؤلاء الأغنياء يستطيعون الوصول لمدير قطاعهم ليؤثروا فيه ليتخذ قرارات تناسب مبانيهم ولكن ذلك يحول ايضاً عملية إدارة الحي إلى صراع بين المباني وعملية إدارة المدينة إلى صراع بين الأحياء غالباً ما تكون نتيجته التدمير التدريجي للأحياء الأقل غنى. ومما زاد الأمور سوءاً أن جمعيات سكنية للأطباء والمهندسين والصيادلة وغيرهم من نخب المجتمع قد تم تأسيسها مما أدى للتقسيم التدريجي الخطير لمجتمع المدينة إلى طبقات اجتماعية منفصلة عن بعضها بشكل لم يعرفه المجتمع السوري من قبل.
الأحياء المبنية الطائفية والقبلية:
لقد حافظت بعض الأحياء على بنية متماسكة نوعاً ما، ولكن ليس بسبب ارتقاء علاقة الجوار وإنما بسبب معاكس وهو اعتماد علاقة الجوار على علاقة انتماء ديني أو مذهبي أو قومي أو قبلي وهذا ما يشكل بحد ذاته خطراً على بنية المدينة وسنتحدث عن ذلك في المستقبل إن شاء الله. إن جهل المواطن بأهمية العلاقات القوية التي تؤدي إلى تماسك بنية الحي وإلى دور تلك البنية في تركيب المدينة الحضارية ولتأثير البنية المتفتتة للحي على الواقع الذي نعيشه على مستوى المدينة والدولة يجعله يظن بأن الحي سيكون جيداً عندما يطلى بطلاء “إسلامي” أو “مسيحي” أو “شيعي” أو “كردي” أو “عربي”.
إمكانية توظيف المعلوماتية في إعادة تجميع الحي:
إن عدم ممارسة المواطن السوري لتعاونه المنظم مع أبناء حيه جعله غير قادر على تسخير أدوات التواصل الهائلة في سبيل ذلك التعاون. رغم استفادة المواطنين السوريين من أدوات التواصل في الحفاظ على صلاتهم رغم توزعهم على قارات العالم إلا أن هذا التعاون لم يصل بعد إلى حد إدراك أهمية هذه الأدوات في الحفاظ على هوية الأحياء المدمرة والبدء بتجميع الجهود وتنسيقها لإعادة إعمارها ولو عن بعد.
أما في الداخل السوري فلقد استفاد الناس في المناطق الخاضعة لما يسمى بالنظام من الانترنت في إيصال بعض المعلومات الخدمية المتعلقة بالبيع والشراء وبعض الأخبار المتعلقة بالخدمات وغيرها وتم تخصيص بعض الصفحات التي تتعلق بأخبار الأحياء والتي يغلب أن تكون موجهة من قبل المخابرات التي لا ترضى إلا بالسيطرة على كل شيء ولذا فمن المستحيل إيجاد صفحات علنية تسعى لمكاملة جهود الناس في تلك المناطق من دون أن تتستر تلك الجهود على الجرائم أو من دون أن تخضع تلك الجهود لمتابعة أجهزة المخابرات. أما في المناطق غير الخاضعة لما يسمى بالنظام والتي يقال بأنها تحت سيطرة المعارضة أو ما يسمى بالثوار فإن الانترنت لم تستخدم بشكل فاعل للبناء المتكامل وإن كانت قد استخدمت بشكل فاعل لنقل أخبار القذائف والبراميل من قبل الفتيان الذين يسمون أنفسهم بالإعلاميين. لقد حاول بعض سكان الأحياء اختيار ممثلين عنهم لتسيير الأمور اليومية، ولكن ذلك لم ينجح كثيراً بسبب عدم وجود قوانين مسبقة تحدد صلاحيات تلك المجالس وبسبب عدم تطور الوعي في ظل الظروف القاتلة وبسبب اغتيال المخابرات السورية للعناصر المنتخبة في المجالس المحلية للقضاء على أية شرعية مدنية وبسبب تدخل من يستمد شرعيته من السلاح الذي يحمله في القرارات المتعلقة بالأحياء.
بالرغم من ذلك فسيتوسع استخدام المعلوماتية بشكل كبير ولن يتوقف ذلك التوسع ولن تستطيع المخابرات المحلية ببنيتها الجاهلية ولا أية قوة مسلحة أن تستوعب التطورات المتضاعفة في مجال تقنية المعلومات والتي ستفتح قنوات هائلة للنقاش الجاد غير الخاضع لسلطة المخابرات ولا لتوجيه السلاح بين أبناء ما يسمى بالشعب السوري كي يمكن حل المشاكل المختلقة بين أبنائه من أجل تنفيذ برامج المخابرات المحلية والعالمية.. ولكن التحول الإيجابي المعتمد على المعلوماتية مرهون بوعي المثقفين لكونهم هم أصحاب الحل ولتحررهم من عقدة الخوف والنفاق التي تربوا عقوداً طويلة عليها.