من نحن؟ محاولة لإيجاد الانسجام بين الكيانات التي ننتمي إليها (متابعة) الدار (أو البيت).

من نحن؟ محاولة لإيجاد الانسجام بين الكيانات التي ننتمي إليها (متابعة) الدار (أو البيت).

جدول المحتويات

نتابع هنا محاولتنا لفهم الكيانات التي ننتمي إليها بشكل شعوري أو لا شعوري. يبدو هذا الفهم ضرورياً لتحقيق الانسجام والنهوض من دون أن نتمزق نتيجة التناقضات بين هذه الانتماءات في رؤوسنا الناتجة عن عدم فهمنا لانتماءاتنا المتعددة. ويزداد هذا الفهم أهمية كي لا يتم استغلال انتماءاتنا وصدمها ببعضها وتوظيف التناقضات المختلقة بين تلك الكيانات في خدمة من يجيدون التلاعب بنا. إن مثل هذه التناقضات هي من أكثر أدوات التدمير فاعلية لأنها تعتمد على التدمير الذاتي ومعظمنا يشارك في تدمير كياناته الذاتية لأنه في مثل هذا النوع من التدمير لا يوجد عدو واضح أمامنا فكثير من أمراضنا نعزوها إلى صراع قاتل بين الجسم والروح وليس إلى تصورنا عن الجسم والروح وكثير من مشاكلنا العائلية نعزوها إلى سوء في الزوج أو الزوجة وليس إلى مفهومنا عن الزواج نفسه وكثير من مشاكل الدولة نعزوها إلى سوء في بعض الشخصيات وليس إلى مفهومنا عن الدولة وكثير من مشاكل العالم نعزوها إلى الدول الاستعمارية وليس إلى عجزنا عن إيجاد صورة في أذهاننا لعالم متعاون.

 

ثالثاً: الدار:

ما هي الدار (أو البيت)؟ أيضاً كما كانت حالنا عندما تحدثنا سابقاً عن كيان الإنسان المعنوي ثم الجسدي ثم الأسرة الجواب لن يكون كما نتصور تماماً. ولن يكون الجواب واحداً عند من يعيش في دولة متخلفة أو في دولة متقدمة. على كل حال لا يجهل أي منا أن لدار الإنسان قيمة معنوية فكما أن لدور العبادة قيمتها الخاصة حتى أثناء الحروب كذلك للدار قيمتها المعنوية “فمن دخل داره فهو آمن”. إن كانت الوحدة الأساسية في تشكيل المجتمع هي الإنسان الفرد فإن الوحدة الأساسية في تشكيل المدينة هي الدار (أو البيت). وأكثر من ذلك فالدار هو نقطة الالتقاء الأساسية بين عالمين مختلفين فالدار هي أهم نقطة التقاء بين النظام المجتمعي البشري وبين نظام المدينة الذي هو نواة الحضارة الإنسانية. قد يفهم أهل بلادنا ارتباط العائلة بالدار التي تسكن فيها فيمكننا وبدون تفكير طويل إدراك تأثير العائلة على شكل دارها وأثر الدار على العائلة، ولكن من الصعب علينا أن ندرك دور الدار في نظام المدينة وأثر نظام المدينة في الدار والسبب الأساسي في ذلك هو عدم توفر المعلومات لمعظمنا عن تطور نظم مدننا تاريخياً وعدم اطلاعنا على نظم المدن المختلفة في العالم اليوم والسبب الأهم اعتبارنا أن مثل هذه المواضيع غير مهمة. إن المفهوم المشترك للدار ووظائفها هو تجسيد عملي لقيم ثقافية مشتركة تجمع الناس تتحول إلى علاقات منظمة في الدول المتقدمة. وإن التشتت العشوائي لذلك المفهوم التاريخي يدل على الانفصال التدريجي لشعوب المنطقة عن تاريخها وعن بعضها.

 

سنرى هنا ارتباط الدار التاريخي بمفاهيم المجتمع في بلادنا وفي بلاد أخرى ومن ثم كيف تطور مفهوم الدار في المدينة الحديثة وما حدث بالمقابل في بلادنا.

1- بعض صفات الدار الشامية التاريخية (في بعض بلاد الشام يطلق ” البيت” على الدار وفي بعضها الآخر على الغرفة منها)

لقد كانت حواضر بلاد الشام من أعرق حواضر العالم ولذا فقد تطورت هوية وروح مميزة للدار في مدن بلاد الشام المأهولة منذ آلاف السنين. هذه الروح تعكس التراكم التاريخي البطيء للكثير من المفاهيم الاجتماعية فمن المعروف أن الدار الشامية لها صفات قد تتوافر كلها في الحالة المثالية أو بعضها في الحياة الواقعية.

فمفهوم “الحجاب” جعل الدار مفتوحة على فناء داخلي يتوسطها وهو فناء واسع ومفتوح نحو السماء (أرض الدار) بينما الدار مغلقة نسبياً من الخارج مما يسمح تلقائياً باستقلالية ساكني كل دار. ولاستكمال هذه الاستقلالية كان باب الدار لا يطل مباشرة على الفناء إلا عبر ممر أو من وراء حاجز يضمن العزل البصري بين الشارع وفناء الدار. كانت الدار في المدينة تحقق ما نسميه بـ “حرمة الدار” التي هي جزء من هويتها المعنوية.

كثيراً ما يتوسط أرض الدار المربعة أو المستطيلة غالباً بحرة ماء ويحيط بها طابقان نصل إلى الثاني منهما عن طريق درج داخلي ضمن أرض الدار نفسها. الأحواض موزعة في الفناء وتحتوي غالباً على الأشجار والأزهار (ياسمين- دالية- توت- ليمون – كباد- نانرج- كباد- ورد جوري.. الخ). في الأشجار وفي بعض ثقوب الجدران المحيطة بالفناء تعشش العصافير وبعض الطيور الأخرى (من دون أقفاص) بما يتناسب مع انسجام ثقافتنا التاريخية مع القيم “البيئية” واحترامنا للحياة.

“الإيوان” هو مجلس واسع مطل على الفناء يتوسط إحدى جهاته ويسمح لنا ونحن في داخل بيتنا أن نجلس مرتاحين دون أن نتبعد عن الطبيعة حيث يمكن لنا أن نرى الأشجار والماء والأزهار ونجوم السماء ولكي تكتمل حياتنا الطبيعية لا تخلو الدار في أكثر الأحيان من قط أو حيوان أليف غيره. ويتكامل حب الطبيعية مع القيم الجمالية حيث نجدها في إبداع الحداد والنجار والحجار والنحاس الذين أبدعوا في صناعة باب البيت وباقي الأبواب وفي زخرفة الخزن المصممة ضمن الجدران أو ضمن الغرف وفي الأسرّة وفي كل الأدوات في الدار بما فيها أدوات المطبخ وغرف النوم.

إلى جانب الإيوان توجد غرفة الضيوف بما يتناسب مع قيم الكرم بالإضافة إلى دورها الكبير في ربط المجتمع النسائي (غالباً خلال النهار) وفي ربط المجتمع الرجالي (غالباً خلال المساء والليل) وكان من الطبيعي أن ينام الضيوف القادمون من مسافات بعيدة عند المضيف.

وفي الطابق الأرضي نجد المطبخ وأدواته المعقدة التي تتناسب مع تطور فن الطبخ العريق في هذه البلاد. الدار تعتمد في بنائها في أكثر الأحيان على الأقواس الحجرية. تحمل الأقواس فوقها أسقفاً واسعة سميكة تسمح مع الجدران السميكة بالعزل الحراري عن الوسط المحيط كما يمكن أن تكون سقوف الطوابق العلوية خفيفة مكونة من قضبان الخشب واللبن.

ويمكن أن تحتوي السقوف على قبب صغيرة تحوي على منافذ شفافة مملوءة بالزجاج تسمح بدخول الضوء وخصوصاً في الليل تدعى ب “القمريات” ويقال بأنها تسمح بعكس الضوء من أية جهة يتواجد فيها القمر نحو داخل الحجرات (إن صح ذلك فيعني أنها تستخدم مبدأ الألياف الضوئية). يمكننا حتى اليوم أن نرى الكثير من “القمريات” في أبنية الحمامات الأثرية التي قد تسمى بالحمامات التركية.

الأقواس المتقاطعة والجدران والسقوف السميكة والقبب وغيرها تأتي من تراكم الخبرات الفيزيائية والرياضية والمعمارية التي تعتمد على المواد الأولية المتوفرة في البيئة، ولكن طبيعة تلك المواد قد تختلف من مدينة لأخرى ففي مدينة قد نجد الأحجار الكلسية وفي مدينة أخرى تتوفر الأحجار البازلتية. غالباً ما يكون في مداخل الغرف مساحة صغيرة معزولة عن باقي أرض الغرفة اسمها “العتبة” يمكن أن نترك فيها أحذيتنا كي تبقى الغرفة نظيفة طاهرة وقد توجد عتبة مماثلة أو اختلاف في مستوى ارتفاع الدار عن الشارع وفي مستوى الغرف عن أرض الدار تحقيقاً لقيم “النظافة”.

كان هناك نوع من التداخل في الشعور بين انتماء الإنسان لنفسه ولعائلته ولبيته ولحارته. أذكر أن عمي (رحمه الله) كان ينظف مساحة الشارع كبيرة على عرض الشارع أمام بيت جدي كل يوم ويرطبها بالماء وكذلك غالباً ما كان يقوم باقي الجيران بتنظيف مساحة مماثلة أمام بيوتهم ولذا كان حيهم دوماً نظيفاً. قد يحوي الطابق العلوي من كل بيت عدداً من الغرف يسكن في بعضها أحد الأولاد الذين تزوجوا حديثاً بما يعكس الروابط العائلية المتينة والقواعد الاجتماعية التي تضمن تعايش الأفراد بالعشرات في بيت واحد وحل المشاكل التي قد تنجم عن ذلك. هذه بعض المظاهر التي تراكمت تاريخياً لتعطي بيوت حواضر بلاد الشام شخصيتها المميزة بناء على منظومة من القيم والوظائف التي لم أبرزها كلها هنا فليس هذا هو هدفي. هذه الصفات ليست إقصائية حيث تشترك بها الدار الشامية مع مناطق أخرى في العالم بمقدار تشارك تلك المناطق بالتصورات والقيم مع بلاد الشام. بشكل مقابل يمكن أن نقول إن الدار القروية أو حتى الخيمة البدوية كانت تحقق بعضاً من تلك القيم بشكل أكثر بساطة وتواضعاً.

2- الدار التاريخية في فرنسا

بشكل مقابل، تطور في فترات حديثة نسبياً (بالمقارنة مع بلاد الشام) البناء المعماري في بعض الدول الأوربية. البناء المشهور المرتبط بالعديد من البلدان الغربية (بعض مناطق فرنسا مثلاً) هو دار ذات سقف قرميدي أحمر مائل من جهتين ولا يحوي على فناء داخلي بحيث يكون محمياً من الأمطار والثلوج وهو أيضاً مكون من طبقتين بالإضافة للقبو (يمكن أن يخزن النبيذ في القبو مع بعض المواد الغذائية التي ستحفظ ربما لشتاء طويل). تحوي الطبقة الأولى من الدار (أو البيت) على المطبخ وغرفة الجلوس النهاري (الصالون) بينما الطابق الثاني على غرف النوم.. الخ..

3- تطور الدار التدريجي داخلياً

نلاحظ أن الدار التقليدية الموصوفة في الفقرة السابقة والموجودة بتفصيلات متعددة في العديد من المناطق في الدول الغربية قد تطورت بشكل كبير ولكن هذا التطور كان وفياً لتراثه فلقد حافظت خلاله الدار الجديدة على شكلها القديم ووظائفها القديمة وأضيفت إليها المزايا الناتجة عن تطور العلوم و الناتجة عن دخول التكنولوجيا الحديثة لمختلف مناحي الحياة والناتجة أيضاً عن اندماجها التدريجي مع البنية المعقدة للمدينة. ستون بالمئة مثلاً من الشعب الفرنسي اليوم يسكن في بيوت مشابهة للبيوت التي كانت موجودة قبل مئة سنة ولكن أضيف لتلك البيوت مآخذ الكهرباء والانترنت وتم ضم بيت الخلاء والحمام لها وأضيفت إليها داخلياً الكثير من الصفات المكملة التي جاءت نتيجة الأبحاث المستمرة في المجالات المعمارية والصحية والاجتماعية.. الخ..

حيث تمت مثلاً إضافة عدة طبقات للجدران تؤمن العزل الحراري وتزيد التماسك المعماري وتغيرت المواد التي تصنع منها النوافذ كي تصبح أكثر عزلاً للحرارة والصوت وأجبر كل منزل على إضافة حساس مع جرس إنذار للتنبيه للدخان.. الخ..

مع التطوير التدريجي للقواعد تطورت المؤسسات الاختصاصية التي تساعد على وضع مخطط صحيح للدار وفقاً لمختلف القواعد قبل بنائها وتدقق مؤسسات أخرى سلامة التصميم وتشرف مؤسسات على بنائه وتتابع مؤسسات صيانته وتطوره بشكل مستمر بحسب التطورات العلمية والتكنولوجية المستمرة التي تتحول وفق آليات مدروسة إلى قوانين وقواعد ونصائح ترتبط بالدور. فمثلاً يمكن أن تتضمن القوانين إلزام صاحب الدار خلال عمليات التجديد بنزع مادة الإمينط العازلة لاكتشاف علاقتها بالسرطان كما يمكن إلزامه بإضافة بعض معايير السلامة كتغيير بعض أنواع مفاتيح الكهرباء أو نصحه بتغيير نوع النوافذ إلى نوع أكثر عزلاً بحيث تتكفل البلدية بدفع نصف كلفة التبديل.. الخ..

كل تلك القواعد لا تخضع لارتجال رئيس البلدية أو لسفسطة المهندس أو لتخيلات صاحب الدار، بل تخضع لتطور منظومات معقدة تطورت وتكاملت نتيجة رغبات أجيال متتالية بالتعاون على العيش بشكل أفضل. بالإضافة للقواعد المتعلقة بمكونات الدار تمت إضافة الكثير من الصفات التي تعطي الدار هوية معنوية فمثلاً تم إدخال توصيف أساسي رسمي في الدار ليكون استديو أو من النوع الأول أو الثاني أو الثالث حيث إن كل نوع يتناسب مع عدد معين من افراد الاسرة وعليه تتحدد بعض التعويضات الاجتماعية للأسرة التي تقطنه ويسهل على المؤسسات المجتمعية الفهم السريع والقيام بالإحصاءات المناسبة المتعلقة بعلاقة الأسرة بسكنها وأخذ فكرة عن التلاؤم بين شكل الدار وشكل الأسرة في كل الدولة. كما تمت إضافة صفة إجبارية وهي “المناعة أو المردود الحراري للبيت”. تسهل هذه الصفة القدرة على معرفة الاستهلاك الضروري للبيت خلال فصل الشتاء وعلى من يؤجر الدار أن يقدم تلك القيمة مع العديد من الصفات الأخرى لمن يريد أن يستأجر. هذه الصفة مع الكثير من الصفات الأساسية المعيارية تعطي للبيت هويته الداخلية ويتم تأطيرها من خلال مجموعات متراكمة من القوانين تشرف عليها مؤسسات وجمعيات تطور بناؤها خلال عشرات السنوات ايضاً هذه الصفات تسهل على المؤسسات المختصة إجراء الدراسات الاقتصادية المتعلقة باستهلاك المدينة للطاقة ومردود أي صيانة محتملة على المدى القريب والبعيد.

4- تطوير الدار كعقدة خدمية

من جهة ثانية تم تطوير الشبكات الخدمية المدنية بشكل واسع فكل دار تشكل عقدة مدروسة في الشبكات الخدمية. هذه العقدة محددة بشكل دقيق وتفاعلها مع باقي العقد مدروس بشكل علمي فأمام الدور (غير الطابقية) هناك عدة أوعية متعددة للقمامة التي يتوجب على سكان الدار فرزها وهناك علبة البريد الخاصة بالدار وعند الدار عقدة توزيع الكهرباء وعقدة توزيع الماء والغاز والانترنت وشبكات المجاري التي تعتمد غالباً على شبكتي تصريف منفصلتين حيث يتم بشكل دقيق تحديد عدد الصنابير والبالوعات ومواقعها وتصريفها في كل بيت. إن كل ذلك يعتمد على عنوان دقيق تم على أساسه تنظيم المدينة وهو عنوان مدروس بحيث يمكن الإشارة إليه من أي مكان في العالم بحسب تطور كل بلد. فلكل بلد في العالم أسلوب مختلف للإشارة للعناوين غالباً ما يحتوي على أرقام ورموز على أسطر مستقلة عن بعضها: بعضها تدل على البلد والمدينة على سطر مستقل والشارع (أو الحي) على ورقم المبنى ضمن الشارع أو الحي على سطر آخر. قد يختلف الشكل الداخلي لهذه العناوين ففي معظم دول العالم نبدأ من الأخص إلى الأعم أما في اليابانية فنبدأ من الأعم إلى الأخص. في الولايات المتحدة يمكن اختصار قسم كبير من العنوان من خلال استخدام رمز بريدي طوله تسعة أرقام بينما في معظم دول العالم طول الرمز البريدي خمسة أرقام فقط.

إن فاعلية شبكة (تدوير النفايات) مثلاً تعتمد على الدقة المسبقة في تحديد عناوين البيوت وعلى التوصيف العام لساكني هذه البيوت وعلى الدراسة الطويلة لأسلوب حياتهم من قبل مؤسسات إدارية ومجتمعية كما يعتمد على دراسة المردود الاقتصادي والبيئي لعملية التكرير من قبل الشركة المنفذة ويعتمد على الشرح الطويل لجدوى العملية للسكان ولدورهم في تلك العملية ذلك الشرح المبني على منظومة من القيم التي تربى عليها ذلك الإنسان. كما تعتمد فاعلية التدوير أيضاً على البلدية التي تنسق بين كل تلك الجهات. إن الدراسة العلمية ومساهمة الشركات والبلدية والساكن تحدث بشكل مشابه في شبكة الماء والكهرباء والغاز والانترنت وغيرها وتجعل من الدار عقدة خدمية كبيرة وما تزال تكبر ولم تكن أبداً بهذا الحجم خلال التاريخ البشري كله.

5- تطوير الدار كعقدة مجتمعية وإدارية

إن الدار بشكل معكوس تعطي ساكنها معنى تترتب عليه حقوق وواجبات. تبنى المدينة كلها على الدار من هذا المنظور. فقاطن الدار يحق له انتخاب رئيس البلدية (أو المختار) الذي تنتمي إليها تلك الدار وكذلك مجلس المدينة ومجلس الحي ونقابات السكان. لا يشترط في فرنسا مثلاً أن تكون حاملاً للجنسية الفرنسية كي تشارك في مثل تلك الانتخابات فهي تعتمد على ارتباطك بالمدينة أكثر مما تعتمد على ارتباطك بالدولة. من خلال الترشح أو المشاركة في تلك الانتخابات يستطيع الساكن أن يشارك في تشكيل مدينته وتحسينها وتطويرها وتنسيق الجهود بين سكانها والارتقاء بالعلاقات فيما بينهم. وبشكل مقابل فإن الإقامة في بيت تفرض على الساكن بعض أنواع الضرائب الخدمية المتعلقة بالدار مثل ضرائب جمع القمامة من الحي.

6- تطور الدار فيما يسمى سوريا:

أدت التغيرات السريعة الناتجة عن الحرب العالمية الأولى والثانية إلى تغيرات عسكرية وسياسية اثرت تدريجياً على المفهوم التاريخي للدار في عقول الناس. وأدت الظاهرة الاستعمارية إلى دخول قيم جديدة في مختلف مناحي الحياة أثرت على القيم الثقافية المحلية في بلادنا. كما أدت الانقلابات العسكرية والحشر السرطاني لأبناء الريف في مراكز القرار التاريخي في المدينة (باسم الثورة على الإقطاع) والسيطرة التدريجية للمخابرات على مؤسسات الدولة إلى بنية عجيبة لمؤسسات الدولة وكذلك لمؤسسات المدينة ولمؤسسات الحي. فالذين يتخذون القرارات المركزية تم اختيارهم من قبل مؤسسات سرية بدلاً من اختيارهم من قبل الناس عموماً أو من قبل المؤسسات المتخصصة وهم لا علم لهم بالقيم الثقافية والاجتماعية المتراكمة للدور الشامية ولا علم لهم بنظم المدن المختلفة في العالم ولا بالبنية التاريخية لمدن الشام العريقة ولا خبرة لهم عموماً في إدارة المدينة إلا من ناحية تسيير المعاملات الروتينية والهدف الأول من اختيارهم كان هو ضمان ولاء المؤسسة السياسي لصالح الحاكم وضمان قدرة المخابرات على التحكم بالناس من خلال تلك المؤسسات. ولذا فإن معيار النجاح الأول للمدير في تلك المؤسسات كان هو بمقدار ما يسخّر من إمكانات المؤسسة للتعبير عن الولاء وتسهيل إنفاذ إرادة المخابرات.

هذه التركيبة أدت إلى شل المؤسسات الرسمية وجعل عملها ميكانيكياً شكلياً وأدى إلى تغيرات سرطانية دمرت الدار الشامية التقليدية وأدى استمرار تلك التركيبة السرطانية لأكثر من جيل إلى ضياع جزء مهم من هوية سكان المدن وربما سكان الأرياف، بل وحتى ضياع جزء من الهوية البدوية (على اختلاف القوميات البدوية المخترعة).

جاء ذلك في فترة خطيرة جداً حيث تضاعف عدد السكان عدة مرات وتضاعف عدد المباني والمساحات التي تشغلها عدة مرات. لقد أدت سيطرة المخابرات على المؤسسات في هذه المرحلة الخطيرة إلى شل المؤسسات الرسمية التي يفترض فيها إدراك الهوية المميزة للبيت الشامي وتعميق الإحساس بها ونقل تلك الهوية إلى البيوت الجديدة ووضع المعايير التي تسمح بالاستفادة من التطور العلمي المتعلق بتصميم البيوت الحديثة من دون تدمير هوية الدار الشامية.

بالتأكيد بقيت بعض أجزاء تلك الهوية التاريخية المتجذرة في سلوكنا مستمرة من خلال حرص السكان على نقلها بشكل غير واع من جيل إلى جيل بشكل متناقص مع الزمن. فقبيل 2011 كانت الدار وتركيبتها وعدد غرفها من أهم المواضيع التي تتم مناقشتها مع الخاطب قبل زواجه. وكانت جودة تصنيع وتنوع قطع “غرفة النوم” هي جزء لا يتجزأ من بيت الزوجية. وكثيراً ما كانت “تركيبة” غرفة النوم تبقى طوال الحياة الزوجية.

كذلك كان بقيت العادات الموروثة تحمل بقايا القيم القديمة فمثلاً غالباً ما يخلع الناس أحذيتهم عند مدخل الدار أو مدخل الغرفة (وكأن العتبة ما زالت موجودة).

لقد ظهر تعاطف ما يسمى بالشعب السوري مع انتمائه لبيته التاريخي من خلال حب معظم الشعب السوري (وغير السوري) لبيئة بعض المسلسلات التي ظهرت فيها بعض الدور الشامية القديمة مثل “أيام شامية” و “باب الحارة” (بغض النظر عن دقة السيناريو ودقة التوصيف التاريخي لتلك الدور). ولكن على العموم الهوية كانت تضيع بسرعة ولا يمكن لجهود الأسرة أن تعوض جمود مؤسسات الدولة.

ومن مظاهر ذلك التدمير السرطاني:

– في حلب مثلاً كان السجل العقاري فيها من أعرق دول العالم. لا يمكن أن نتخيل أننا نعتمد اليوم على دفاتر مهترئة صفراء من أيام الفرنسيين يتم لصق صفحات إضافية عليها لتذييل صفحاتها وإضافة صفحات إليها بشكل بدائي.

– في حلب مثلاً كان البناء ممنوعاً خارج المخطط التنظيمي للمدينة ولم يكن هناك خطة للإسكان. كانت وسيلة البناء (القانونية) تتم من خلال دفع رشى لموظفي البلدية لاستصدار قرار بالسماح بتخريب البيوت الحلبية القديمة وبناء أبنية طابقية غير مدروسة تتناقص فيها المساحات الخضراء والمساحات التي تصل منها الشمس ويمكن رؤية النجوم منها.

في البداية احتفظ الناس بمساحات خضراء في الطبقات السطحية (الأرضي) من خلال الأحواض، ولكن ومع ازدياد أسعار المباني تناقصت هذه المساحات لتصبح عبارة عن “أصص” توضع على “الشرفات” وتحتوي على بعض الأزهار ونباتات الزينة ثم تناقصت حتى اختفت. في مناطق أخرى من حلب (وهي الغالبة) كانت وسيلة البناء (غير القانونية) هي بناء طوابق فوق الدار التقليدية (التي لم تكن مصمماً أصلاً إلا من طبقة أو طبقتين) حتى وصل عدد الطوابق إلى ستة أو سبعة من دون أي تخطيط علمي! وامتدت الشرفات من تلك البيوت لتلتهم من عرض الشارع الذي كان بالأصل ضيقاً لأن الدار التقليدية الأساسية كانت ذات ارتفاع محدود وتحتوي على عدد قليل من السكان بالمقارنة مع البناء الضخم غير القانوني الذي قبع فوقه. هذا التطور السرطاني أثر في القيم الجمالية والقيم البيئية والعلمية والعمرانية وبما أن البناء السرطاني غير منسجم مع القيم الدينية فقد كان كثير من السكان مضطرين لإغلاق النوافذ من خلال ستائر واسعة من أجل منع “الكشف”. مما أثر بدوره وخلال زمن طويل على نفسية الساكنين.

– مع ضياع البيت الشامي التقليدي ضاعت إحدى الأدوات الجامعة التي تساعد على تحقيق مجموعة من القيم وعلى الربط اللاشعوري بين سكان حواضر هذه البلاد.

وأدى التطور العشوائي كثير من الأحيان لبنية الدار الداخلية والخارجية إلى عدم تطور مشاعر انتماء الساكن تجاه هذه المباني. لقد فقد الإنسان شعوره التاريخي بالمبنى الذي يعيش فيه وأصبح من الطبيعي مثلاً أن تجد داخل بيت الإنسان نظيفاً (بحسب قيم النظافة التاريخية والناتجة عن الدين اساساً في بلادنا) ولكن تجد درج البناية وسخاً (بسبب عدم إحساس الإنسان بانتمائه المنظم لمبناه ولحارته) وكان من الطبيعي أن يدهن الإنسان باب بيته وما يحيط به بلون معين بينما جاره الذي أمامه يدهن باب بيته المقابل وما يحيط به بلون مناقض مع أن البابين متقابلان في نفس الطابق وفي نفس المبنى وقد لا يبعدان عن بعضهما أكثر من مترين.

– لا يوجد عنوان مدروس للبيت في سوريا العريقة!! لا يمكن في هذه الحالة تطوير الدار كعقدة خدمية في المدينة. إن شركة الماء وشركة الهاتف وشركة الكهرباء في سوريا لها تصانيفها المستقلة شبه العشوائية وهذا ما يمنع أية عملية تطوير مدني حقيقية وبالتالي ليس للبيت هوية داخل المدينة. خلال العقود الماضية تعطلت مؤسسة البريد حتى أنها فقدت وظيفتها وأصبحت مرتبطة بأذهاننا بالهاتف وليس بالبريد. ومعظم الشعب السوري لم يعد يستخدم الرسائل التي كانت عصب ربط المجتمع والدولة وتطويرهما (تقوم مؤسسة البريد مثلاً في فرنسا بنقل مئة وعشرين مليون رسالة يومياً). عندما تم تخفيف بعض القيود على عمل الشركات في سوريا قامت شركات النقل الخاصة بلعب دور جيد في هذا المجال حيث كانت تنقل بالإضافة للركاب الرسائل والطرود البريدية والأموال بالاعتماد على رقم هاتف المرسل والمستقبل الذين يتولون بأنفسهم ارسال او استقبال المنقولات من مكاتب الشركات المركزية. تعد سورية اليوم واحدة من الدول الخمسين الأكثر تخلفاً في العالم التي ليس فيها رموز بريدية حتى الآن.

– لا يمكن أن تكون هذه الهوية الداخلية أو الخارجية للدار موجودة في ضوء السيطرة المستمرة للمخابرات على مؤسسات الدولة. فرئيس البلدية ومن هو دونه والذين تعينهم المخابرات قد لا يكونون أصلاً من المدينة وأجهزة الدولة أصبحت في وجدان الناس عبارة عن غنائم اغتصبتها أجهزة المخابرات والغريب أن الناس من مدراء وموظفين ومواطنين أصبحوا لا يجدون في هذه الآلية أية غضاضة وما يزعج الناس هو تعيين مدير “ابن حرام” وليس “ابن حلال” وليس آلية التعيين نفسها وشرعية من يقوم بالتعيين!

– بالتأكيد يوجد قوانين وتشريعات تتعلق بالبيوت والدور والتراث، ولكن تلك القوانين لم تنبثق عن مؤسسات تشريعية انتخبها الشعب ولم تولد نتيجة تراكم جهود مؤسسية وتفاعلات مجتمعية فهي غير محصنة وغير مفهومة. بالنسبة للناس “القانون” هو أوامر تصدرها الدولة ويمكنه تجاوزها إن كان له معارف في تلك الدولة التي تختلط فيها في رأسه المؤسسات بالمخابرات بالجيش بالطائفة (التي يطلق عليها حالياً مصطلح “النظام”). لقد صدرت مثلاً قوانين للحفاظ على بيوت حلب القديمة تمنع هدمها، ولكن دون وجود أي خطة للاستفادة منها لربطها بثقافة طلاب المدارس أو بثقافة أهل المدينة أو بدعم لتكريس الحياة التقليدية في تلك البيوت. نتيجة تلك القوانين قام الكثير من أهالي تلك البيوت التي عمرها أكثر من ستمئة سنة بتحويلها إلى معامل!! كما حدث في حي “الجلوم”. بالمقابل كنت أشهد في فرنسا كيف أن أحد الشوارع الذي لا يزيد عمره عن مئتي سنة لا يجوز لسكانه تغيير معالمه مقابل الدعم اللازم من البلدية كي يتأقلم الناس مع ذلك الوضع وكيف أن أحد البيوت كان سكانه يفتحونه في أحد أيام السنة مجاناً كي يطلع أهل المدينة على التركيبة التاريخية لبيوت مدينتهم (ضمن زيارات كثيرة تكفل الربط الحضاري بين الأجيال الحاضرة والسابقة)

– أذكر الحي الأول في الحمدانية (والذي كان من تصميم روسي) وهو من الحارات المعدودة التي إعدادها بشكل منظم من قبل مؤسسات الدولة وبشكل خاص لضباط الجيش. أذكر كيف كان تصميم البيوت لم يراعِ الموروث الثقافي لبلادنا فالبيوت المتواجهة والنوافذ المتقابلة لا تراعي حرمة البيوت وأن نوعية المراحيض التركية المركبة تؤدي إلى تنجيس ملابس السكان واتجاه المراحيض لا يراعي التعارض مع اتجاه القبلة والمبنى لا يحوي على قبو أو ملجأ (مع أنه مخصص في البداية لضباط الجيش) وكان في الحي ما يشبه الكازينو حوله الناس بعد جهود كثيرة لمسجد.. الخ.. أثناء متابعة هذه الحلقات يمكن الحديث عن الأحياء الأخرى الجديدة كأحياء المهندسين والزهراء وغيرها.

– لا تمثل الدار أي عقدة مجتمعية أو مدنية حقيقية ولا يعطي الدار أي حق واضح لقاطنيه ولم يعد الإنسان السوري يعرف أصلاً دوره في اختيار رئيس البلدية وفي اختيار مختار الحي. فقد اختلطت الأمور في رأسه نتيجة عدم مشاركته المنظمة في بناء حيه ومدينته. رئيس البلدية مثل المحافظ يتم اختيارهم من فوق (أي تختارهم المخابرات) حيث تختلط السلطة التنفيذية بالقضائية بالتشريعية ويصبح البرلمان والجيش والحكومة والشرطة والنقابات ورئاسة الجمهورية هيولى تمزجها المخابرات تسمى الدولة.

– حتى القيمة المعنوية البسيطة يتم تخريبها بشكل فظيع. أذكر أن أخي أبلغ قبل حوالي خمسة عشر سنة شرطة النجدة عن إطلاق نار يقوم به بعض القاطنين الجدد في أحد المباني التي بنيت على أنقاض واحد من أجمل البيوت الجميلة في الحارة. جاءت الشرطة وأجرت تحقيقها. بعد فترة اكتشفنا أن حكماً بالسجن ضد أخي قد تم إصداره عن المحكمة فقام باستئنافه وإلغائه، ولكن المشكلة كيف تمت المحاكمة والحكم من دون تبليغ؟ لقد اكتشفنا أن القاطنين الجدد هم من تجار المخابرات والذين يتعاملون كمخبرين مع المخابرات وقد قاموا عبر الشبكة التي تشل أجهزة الدولة بتبليغ أخي (لصقاً) بالادعاء وبموعد المحاكمة وبالحكم!! قانوناً عند العجز عن تبليغ الإنسان بشكل مباشر يأتي المبلغ مع المختار وفي حال عدم فتح الباب لعدة مرات يقوم المختار مع وجود شهود ومع المبلغ بلصق ما يراد تبليغه على باب البيت. مختار حينا الذي لم نختره أصلاً والذين لا نعرفه اصلاً ولا يعرفنا قامت المخابرات بتعيينه وهو شاب من إحدى القرى الشيعية. قام ذلك المختار بالتوقيع المزور على أن التبليغات كان يتم لصقها على باب البيت وهذا ما يعطيها أثرها القانوني وبالتالي حتى القيمة المعنوية القديمة للبيت كان يمكن استخدامها في تخريب البلد.

– ما يقال على حلب يمكن تعميمه على باقي المدن والأرياف حيث يتم بناء البيوت ضمن الأراضي دون وجود أية خطة مركزية أو معايير مركزية مدنية أو معمارية أو ثقافية أو وطنية أو تاريخية إلا اجتهادات صاحب الدار أو بعض مجموعات القوانين المنسوخة والملصوقة من “البلدان المتقدمة” والتي لم تنتج عن أية دراسة حقيقية (أو عن دراسات سطحية) للواقع الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي لأن المؤسسة الجامعية والمؤسسة العلمية التي يمكن أن تقوم هي نفسها معزولة عن واقع المجتمع فهي أيضاً تدار من قبل أجهزة المخابرات.

– هذا التخريب متعدد الابعاد لهوية الدار الداخلية والخارجية التاريخية والمعاصرة يتناول المدن كما يتناول كل الأرياف بما فيها مناطق الطائفة العلوية النصيرية التي يتم استغلالها لصالح التحكم الكامل بنظام الدولة مما يؤدي لشل المؤسسات والتي تطال نتائجه المباشرة البنية المدنية والمجتمعية التي ينتمي إليها أولئك الذين يساهمون بتجميد تلك المؤسسات. لقد خرب البناء غير المتناسق وغير المدروس وغير الموجه قسماً كبيراً من الشكل التقليدي للقرى العلوية كما خرب باقي القرى في سوريا. لقد كنت في الصلنفة مثلاً قبيل الأحداث ورأيت كيف أن أحد الضباط قطع مساحة كبيرة من الغابات وقام ببنائها وبيعها بالتعاون مع عصابة متكاملة في البلدية وشركة الماء والكهرباء!! ورأيت كيف تم تدمير البيئة القروية من خلال الأبنية غير المنسجمة مع محيطها ومن خلال هياكل أبنية الفنادق التي بدأ بها بعض لصوص الدولة كي يسرقوا قروضاً ضخمة من الدعم الحكومي الذي كان مخصصاً لمساندة المشاريع الاقتصادية فمن ناحية تم تدمير دائرة الدعم الحكومي ومن ناحية أخرى تم تدمير البيئة في مناطق سكن أولئك اللصوص.

– في عهد حكومة العطري خلال حكم بشار الأسد تم إعطاء بعض الصلاحيات للحكومة استطاعت على أساسها تجميد البناء العشوائي والبدء بسلاسل من المباني “السكن الشبابي” مما كان يبشر بالتوجه الإيجابي، ولكن مع بدء الأحداث شجعت المخابرات الشبيحة وعموم الناس على البناء العشوائي الواسع والمخالف مع إصدار الأوامر للشرطة بعدم التدخل وذلك لإحداث بلبلة وصدامات واسعة في البلد تشغل الناس عما يحدث فيها. تم بناء ما بين خمسين ومئة ألف شقة عشوائية في حلب. هذه الأبنية العشوائية دمرت كل الخطط التي كانت ممكنة للتنظيم المدني والمجتمعي وهي جرائم تفوق جرائم الهدم العشوائي في العملية التنظيمية.

– لم يكتمل البناء العشوائي حتى دخلت مدينة حلب في لعبة مخابراتية أخرى هي فصلها لقسمين ومنع التواصل بين القسمين لإحداث حالة شرخ واسع للمجتمع تجعله غافلاً عن مؤسسات المخابرات التي تتحكم بكل المفاصل. لقد بقيت هناك بعض الممرات الخطرة بين القسمين في البداية مفتوحة، ولكن ذلك على ما يبدو لم يكن يساعد على البرمجة المطلوبة لتقطيع الشعب المسمى بالسوري وعلى صدمه ببعضه كي لا يستوعب ما يحاك له فتم إغلاق المعابر نهائياً. وتم قبل فترة إعلان الجانب الروسي عن فتح معابر إنسانية بين شطري حلب. إن هذا الإعلان الكاذب حتى ولو افترضنا صدقه يدل على المؤامرة العميقة التي تشارك بها قوى عالمية لتقطيع الأواصر التي تربط بين أبناء ما يسمى بالشعب السوري والتي نجحت حتى هذه اللحظة إلى أبعد الحدود.

– ولم يمض وقت طويل حتى بدأ قذف البراميل المتفجرة التي يرميها ما يسمى بالجيش العربي السوري (والذي مهمته الرسمية نظرياً هي الدفاع عن الشعب السوري وعن مدنه!!). وصل عدد البراميل المتفجرة لعشرات الآلاف التي دمرت المباني العشوائية وغير العشوائية ودمرت الاسر ودمرت البنى المجتمعية ودمرت ما تبقى من معنى الدار والمدينة والوطن وحتى معنى الحياة في عقول الناس الذين تسقط عليهم وفي عقول الذين يتجاهلونها. إن مجرد الحديث عن الأخطار الكثيرة التي تطوق ما يسمى بالشعب السوري مع تجاهل البراميل المجرمة التي ترمى فوق أسواق الخضار إنما هو مشاركة في تدمير كيان الإنسان المعنوي الذي يتجاهل تلك البراميل (بالإضافة لمن ترمى عليه) وفي تدمير كيانه المادي وفي تدمير أسرته وفي تدمير بيته وحارته ومدينته وطائفته ودولته وأمته.

– إن الانعزال الطويل لما يسمى بالمواطن السوري عن المؤسسات التي تتحكم فيه جعلته عاجزاً عن فهم معان بسيطة كمعنى عنوان الدار والرمز البريدي ومعنى الدار كعقدة مجتمعية ومعنى البلدية.. الخ.. كل ذلك جعله يحتاج لوقت طويل عندما هاجر إلى الدول الأخرى ليفهم بعض تلك المعاني ليستطيع التأقلم مع البيئات الجديدة.

– إن هذا الانعزال عن فهم هذه المعاني وهذا النخر الهائل في كل الكيانات التي ينتمي إليها الإنسان المسمى بالسوري (والذي تساعد عليه أساساً مؤسسات سرية تدعى أشهرها بمؤسسات المخابرات السورية) لا يمكن أن يتم تصحيحه بشكل يسير. وبشكل خاص فإن الرمي العشوائي للبراميل (هذه الجريمة الأفظع التي يشارك فيها كل من يتجاهلها) يدفع إلى تعميق شعور الناس بالانتقام. هذا الانتقام يصعب توجيه باتجاه فهم عميق ومفصل للمشكلة الطويلة كي يتعاون المنصفون على كشف المجرمين والوقوف في وجههم ومحاكمة القتلة وإنما يسهل توجيهها نحو الانتقام الذي يمكن أن يحافظ على كيان مقابل تفتيت كيان أوسع. يبدو لي بشكل واضح أن المؤسسات السرية الإجرامية قادرة على الاختفاء دائماً وراء الصراعات المختلقة بين مكونات الشعب والتي لا يمكن حلها بغير فهم من قبل عدد كبير من المثقفين والواعين وتعاونهم على حلها، ولكن إلى الآن معظم المثقفين منفعلين مستسلمين سلبيين لوسائل الإعلام أو يظنون بأنهم ينأون بأنفسهم عن المشكلة التي تبتلعنا جميعاً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ** فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)

النور 27-28

لا يحق لنا (ولا لأحد) دخول بيوت الآخرين من دون أن يسمحوا لنا بالدخول، بل ومن دون أن نشعر أنهم مستأنسين بوجودنا. إنه أدب رفيع. وإن لم يكن أصحاب البيت موجودين فلا يحق لنا الدخول إليه.

القضية لا تتعلق بالأدب فقط! فكما أن للإنسان كيان مقدس بغض النظر عن طوله وعرضه وعمره وجنسه ولونه. كذلك فإن البيت الذي يأوي إليه الإنسان هو كيان مقدس سواء أكان صغيراً أو كبيراً جديداً متماسكاً أو قديماً متهالكاً.

وكما أن الأسرة هي الخلية الأساسية في المجتمع الإنساني كذلك فإن البيت هو الخلية الأساسية في المدينة موطن التحضر البشري.

كيان البيت لا يتعلق بأحجاره فقط، بل القضية أعمق بكثير من ذلك. فالبيت هو عقدة مجتمعية وعمرانية وخدمية يتفاعل مع كيانات انتمائنا الأخرى. وللبيت حقوق كما للفرد الإنساني حقوق. له حق بأن يكون له اسم وعنوان وبأن يكون له موقع مدروس في الشبكة العمرانية والطبية والتعليمية وفي شبكة النقل وبأن يكون له شكل ولون وحصة من السكينة والهدوء والشمس والهواء كما له حقه من الانترنت والكهرباء والماء.

بمقدار ما ندرك أبعاد الكيانات التي ننتمي إليها بمقدار ما ندرك أبعاد حياتنا الفردية والجماعية ونستوعب مسؤولياتنا أمام الله

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات من السلسلة

من لطائف اللغة أن “الحي” والحياة تشتقان من جذر واحد. في محاولتنا لحل مشكلتنا تساءلنا “من نحن؟” نتابع هنا محاولتنا للإجابة من …

من أجل فهم المشكلة السورية وإمكانية حلها.. بدأنا بطرح السؤال المهم “من نحن؟” السؤال الذي نظن أن إجابته واضحة وهي ليست كذلك! …

كيف نُشبع حاجتنا للشعور بالانتماء؟ الشعور بالانتماء هو حاجة طبيعية وهو شعور غريزي (أو ربما السلوك الناتج عنه هو سلوك فطري) لذا …

ليست الغاية من السؤال هنا هي تحديد المؤمن من الكافر أو معرفة من سيدخل الجنة ممن سيدخل النار. ليست الغاية هنا تحديد …

مقالات علمية

The current query has no posts. Please make sure you have published items matching your query.

مقررات تعليمية