من نحن؟ محاولة لإيجاد الانسجام بين الكيانات التي ننتمي إليها.

من نحن؟ محاولة لإيجاد الانسجام بين الكيانات التي ننتمي إليها.

جدول المحتويات

من أجل فهم المشكلة السورية وإمكانية حلها.. بدأنا بطرح السؤال المهم “من نحن؟” السؤال الذي نظن أن إجابته واضحة وهي ليست كذلك! ناقشنا بعض النتائج الخطيرة الناتجة عن عدم الدقة في فهمنا لبعض تعابير الانتماء التي نستخدمها من قبيل: “نحن الحلبيون” عندما يقصد بها الأحياء التي يسيطر عليها ما يسمى بالنظام أو “نحن الحلبيون” عندما يسيطر عليها ما يسمى بالثوار أو “نحن الحلبيون” عندما يقصد بها سكان المدينة الأصليون غير الوافدين مع العلم بأن حركة الوفود إلى حلب لم تتوقف عبر التاريخ باعتبارها من أقدم مدن العالم فنجد بين كنى العائلات المشهورة في حلب ما يدل على جذورها المتعددة من أمثال “شركس” “بدوي” “عرب” “كردي” “تركماني” “عجمي”. الخ.. كما نجد ما يدل على التمازج التاريخي الهائل بينها وبين المدن والأقاليم التاريخية في العالم من أمثال “قدسي” أو “حمصي” أو “شامي” أو “طرابلسي” أو “معراوي” أو “أورفلي” أو “انطاكي” أو “مصري” أو “مغربي”.. الخ.. بشكل مشابه نجد عائلات “الحلبي” منتشرة على امتداد الحواضر القديمة التي كانت حلب على اتصال معها وتبدو حركة التمازج مستمرة ومعقدة لدرجة أننا سنجد عائلات “حلبي” و “حلبية” ضمن مدينة حلب نفسها والتي يمكن أن تكون لعائلات من أصول حلبية استقرت في مدن أخرى حتى اشتهرت بكنية “الحلبي” ثم عاد بعض أفرادها إلى حلب محتفظاً بكنيته المكتسبة.

يستخدم أحدنا الضمير “نحن” وهو يظن أنه يتحدث عن جنس بشري مختلف عندما يقول “نحن الحلبيون” أو “نحن السوريون” أو “نحن العرب” أو “نحن الكرد” أو “نحن المسلمون” أو “نحن المسيحيون” أو “نحن العلويون”.. الخ.. بينما الحقيقة أن هذه الكلمات وإن كان لكل منها معنى معين إلا أن هذه المعاني ليست متناقضة وهي في كثير من الأحيان متداخلة واستخدام أي تعبير انتماء بشكل يقصي المعاني الأخرى إنما يهدف إلى توليد حالة عاطفية تهدف في أكثر الأحيان إلى توليد حالة عصبية قبلية يقع فيها معظمنا حيث يتم الزج به من دون أن يدري في حالة مواجهة مع الآخرين من خلال الإيحاء له بأن ما يشترك به مع إخوانه هو الظلم الذي يتعرضون له من قبل الآخرين وليس المشروع الإنساني القابل لمكاملة كل الناس على مستويات مختلفة.

من أجل حل هذه القضية لا بد لنا إذاً من معرفة مجموعة الكيانات الحقيقية التي ننتمي إليها أولاً والعلاقة بين تلك الكيانات كي نستطيع تحديد مواضع الخلل في الانتماءات التي يتم توجيهنا لها ونتجنب العصبية التي يمكن أن ننزلق إليها. يبين الشكل المجاور مجموعة من الكيانات المادية والمعنوية المهمة التي يعيش فيها الإنسان هذا اليوم. لا أدعي بأنني وضعت كل الكيانات التي ينتمي إليها الإنسان شعورياً أو لا شعورياً ولا أعتقد بأن طريقة الرسم مثالية وسأحاول تطويرها لاحقاً إذا اتيحت لي الفرصة ولم أفصلها كثيراً اليوم كي لا أبتعد الآن عن مناقشة المشاكل العميقة التي تشكل المجازر وجرائم الإبادة أحد مظاهرها. لقد قمت بجمع هذه الكيانات بطريقة تمكن الآخرين من إعادة استخدامها وتعديلها لتوسيعها لتضم الكيانات الأخرى التي لم تذكر هنا. أعتقد بأن جمع هذه الكيانات والتذكير بحدودها وبالعلاقات فيما بينها يسمح لنا بفهم بعض المشاكل الناتجة ربما عن انتمائنا بشكل فطري غير واع لبعض هذه الكائنات أو عن خلطنا فيما بينها أو عن تصورنا لوجود تناقضات بين هذه الكيانات. إن وجود تناقضات بين هذه الكيانات يعني أن هناك مشكلة في تصورنا عن الحياة البشرية نفسها والحل في هذه الحالة يستدعي مراجعات طويلة فردية وجماعية ويتطلب بذل أقصى الجهود لإيجاد الانسجام بين انتماءاتنا لهذه الكيانات المتعددة.

 

بشكل خاص أنبه هنا إلى خطورة فهمنا المجزوء لبنى بعض الكيانات والتي يجعلها في حالة تناقض مع كيانات أخرى في مستوى أعلى أو أدنى منها مثل فهمنا المجزوء للدين وبخاصة الإسلام الذي قد يجعله حلاً لبنية الفرد أو الأسرة أو الأمة ولكنه يجعله في حالة تناقض مع بنية الدولة وبنية العالم وكذلك الفهم المجزوء للديمقراطية والذي قد يجعلها حلاً لبنية المدينة وبنية الدولة ولكنه يجعلها في حالة تناقض مع بنية الأسرة وبنية العالم. بعض هذه الكيانات الموضحة في الشكل لها طابع فيزيائي (أو مادي) وقد وضعتها ضمن إطار متصل بينما وضعت الكيانات التي لها طابع معنوي ضمن إطار منقط. في الحقيقة حتى الكيانات المادية تستمد أهميتها من الكيانات المعنوية المرتبطة بها فجسم الإنسان لا قيمة له من دون ارتباطه بالإنسان وكذلك البيت لا قيمة له من دون القاطنين فيه والذين غالباً ما يشكلون أسرة. في الشكل المجاور الكيانات الداخلية هي الأقرب للفرد والتي يمكنه أن يتحكم فيها بشكل أكبر. كلما اتجهنا نحو الكيانات الخارجية كلما كان إطار الانتماء أوسع فكما نرى الانتماء للأمة أوسع من الانتماء للأسرة.

 

من المهم أن ندرك أن انتماء الإنسان لكيان واسع جداً لا ينفي مسؤوليته النسبية عنه ولعل الكثيرين من القاطنين فيما يسمى بسوريا تمادى لديهم الشعور عبر عقود بعدم مسؤوليتهم عن الكيانات الواسعة التي ينتمون إليها فربما يشعرون بانتمائهم لأسرهم، ولكنهم لا يشعرون بأنهم ومن خلال ممارساتهم اليومية مسؤولين عما يحدث في مدنهم ودولتهم وعما يحدث في العالم وفي بيئتنا الأرضية كلها. ولعل هذا الشعور بعدم المسؤولية هو من أهم أسباب شلل معظمهم حالياً عن القيام بعمل إيجابي أو حتى عن تصور مثل هذا العمل حتى أنهم يتعاملون مع القتل والتدمير الممنهج الذي يصيبهم في كل المجالات وكأنه صراع بين كائنات فضائية لا علاقة لهم بها وليس من مسؤوليتهم التفكير والتعاون لحماية أنفسهم خلالها، بل إن أحدهم يتابع عمله اليومي الذي يتضمن مساعدة تلك الكائنات الفضائية والرضوخ لأوامرها دون أن يشعر أنه هو نفسه جزء مما يصيبه. إننا مسؤولون حتى عن أقصى دائرة نفوذ للبشر والتي تتضمن التحكم بالأرض وربما تطال أيضاً جزءاً مما يحيط بها. صحيح أن حركة كل منا قد تبدو غير واضحة مع الهدير الصاخب لحركة مليارات البشر، ولكن عدم وضوح التأثير النسبي للواحد منا لا ينفي وجود ذلك التأثير فحركة المجتمع الإنساني كله ما هي بالنتيجة إلا تراكمات عبر الزمن لحركة بني آدم. إن الحركة المنتجة الواعية للفرد هي العامل المحرك للتأثير في المجتمع الإنساني كله. والحركة المتناسقة لمجموعة الأفراد ضمن كيان من الكيانات تضاعف فاعليتهم وتأثيرهم الفردي فيه وبالمقابل فإن صدم جهود الأفراد ضمن كيان من الكيانات يؤدي إلى انعدام تأثيرهم وإلى انفراط الكيان الذي يجمعهم وجعلهم سبباً من أسباب تعاستهم وتعاسة الآخرين. ولذا فإن الفهم المبدئي للكيانات التي نعيش ضمنها مهم جداً لنا كي نستطيع المساهمة في القيام بدورنا المثمر الممتع البناء الذي يضمن سعادتنا وسعادة الآخرين في الدارين. من المهم جداً أن ندرك أننا ننتمي لكيانات متداخلة وأن نعلم أن هناك تأثيراً وتأثراً بين هذه الكيانات بالاتجاهين فالفرد البشري المعد إعداداً حضارياً يساهم في بناء الأسرة المتحضرة التي تساهم ببناء مجتمع راق وبشكل معكوس فإن المجتمع الراقي يساعد على إعداد الأرضية لتكوين أسره متحضرة وكل من المجتمع المتحضر والأسرة المتحضرة يساهمان بشكل كبير في إعداد الفرد المتحضر. في معظم الأحيان فإن الكيان المرسوم في أحد المستويات في الشكل المجاور يكون نتيجة تفاعل بين الكيانات الواقعة في المستوى الأدنى والكيانات الواقعة في المستوى الأعلى. فالأسرة مثلاً هي نتيجة تفاعل بين كيانات الأفراد الذين يشكلونها من جهة وبين تصور المجتمع وتفاعله معها وتأمينه لحمايتها ورعايتها سواء من خلال تيسيره لارتباط الزوجين ولاستمرار ارتباطهما وكذلك التشارك في تحمل أعبائهما من خلال تأمين المسكن والرعاية الصحية والتربوية والنفسية للأسرة بما يكفل تعميق الروابط بين أبنائها سواء من خلال منظومة القيم التي تضبط المجتمع أو من خلال منظومة القوانين التي تضبط الدولة أو غير ذلك.

لعلنا سنمر على هذه الكيانات بسرعة وفي المستقبل سنعود إليها بالتفصيل عند مناقشة الحلول الممكنة للمشكلة السورية أو عند مناقشتنا للمشاكل الأخرى الأوسع التي ترتبط بها المشكلة السورية.

أولاً: الكيان المعنوي للإنسان:

رغم التشابه البيولوجي بين الإنسان والحيوان إلا أن الإنسان متفرد بمزاياه التي تمكنه من فهم العديد من الأنظمة المعقدة التي يبنى عليها الكون وتمكنه من الشعور العميق بما حوله ومن القدرة على التحكم الهائل بالأرض كلها مما يجعله مسؤولاً عما يفعله بمقدار شعوره بتميزه. هذا ما يعطي الإنسان كيانه الخاص الذي يتم التعبير عنه من خلال صفات خاصة بالإنسان كالكرامة والنخوة وغيرها ومن خلال الصفة الأهم المشتقة من “الإنسان” وهي “الإنسانية”.

إن شعور الإنسان بتميزه كإنسان ينعكس مباشرة على سلوكه ويظهر من خلال تقديره لعموم بني البشر ودفاعه المبدئي عن الكيان البيولوجي لأي إنسان وما يتعلق بالإنسان من ماديات وما يتعلق به من معنويات وهذا ما يرمز له ب (دمه وماله وعرضه). وبالمقابل فإن كتم شعور الكائن البشري بتميزه الإنساني يضعف شعوره بالمسؤولية عما يقول أو يفعل أو يكتب أو يقرأ أو يسمع ويجعله منافقاً منفعلاً يمكن التحكم به فيصبح خطراً على نفسه وعلى أسرته وعلى المحيط الإنساني والبيئي من حوله.

 

إن الجذر العميق للحضارة الإنسانية يبدأ من هنا.. من الإقرار بتميز الإنسان. وللأسف فقد تركز بعض المناهج التعليمية الحديثة على النواحي التقنية من دون القيم الإنسانية مما قد يحول الإنسان إلى آلة قوية شديدة الخطورة. وفي بعض الدول التي تم استعمارها تم تخريب منظومة التعليم التقليدي الذي كان مبنياً على “القيم” وتم إخضاع منظومات التعليم الحديث لاحقاً لآليات تحكم مواز مما جعله ممسوخاً لا يعلم “التقنيات”.

 

للأسف لقد خضع الناس في المنطقة المسماة بسوريا (ودول أخرى مشابهة) خلال عقود لضغوط سياسية واقتصادية ومجتمعية هائلة مما أضعف شعور الكثيرين بإنسانيتهم وأثر على وعيهم بتميزهم الإنساني وجعل الكثيرين منهم سلبين وأحياناً مجرمين يمكن التحكم الجماعي بهم وصدمهم بسهولة ببعضهم.

 

إن عدم وعي الإنسان لمسؤوليته الإنسانية يجعل كل الكيانات الأكبر التي ينتمي إليها (كالأسرة والحي والمجتمع) هشة ويمكن جعله أداة في تدميرها. لقد عرفت مثلاً طبيباً شرعياً في مدينة حلب كانت مهمته الرسمية النبيلة هي المساعدة في كشف جرائم الاعتداء على جسم الإنسان هذا الطبيب لم يكن أداة طيعة في تزوير التقارير الجنائية فحسب، بل كان يقود بنفسه مجموعة من القتلة الذين يقتلون الأبرياء بالسلاح الأبيض أو غيره. إن هذا الطبيب أخطر بكثير على بنية الدولة من عشرات المجرمين الجهلة الذين كان يقودهم لأن كيانه المعنوي الممسوخ يشبه كيانهم، ولكن الإمكانات العلمية التي يحملها والشهادة “الإنسانية” التي يحملها تدمره أكثر من تشويه الإنسانية.

 

يتميز الكيان المعنوي للإنسان عن باقي الكيانات الأخرى بأنه يرتبط من جهة واحدة بالمستويات الخارجية المحيطة به بينما هو حر من الجهة الداخلية. هذه الميزة تبين لنا من أين يبدأ الجذر العميق للمشروع الإنساني. كما ذكرنا سابقاً فإن معظم الكيانات الأخرى هي عبارة عن تفاعل بين الكيانات في المستوى الأعلى والمستوى الأدنى لها فالأسرة هي تفاعل بين الكيان البشري المادي والمعنوي (أي أفراد الأسرة) من جهة وبين بيئتها المحيطة من بيت وحي ومدينة وقوانين دولة وقيم مجتمعية من جهة أخرى إن سلوك الأسرة يتحدد تماماً من خلال تحديد أفرادها ومن خلال معرفة البيئة التي تحدد دور كل فرد وتقوي أو تضعف الروابط بين أفراد الأسرة بحسب تطور الأمة أو انحدارها. إن ارتباط “الكيان المعنوي للإنسان” بباقي الكيانات من جهة واحدة يدل على أن جسم الإنسان يمكن أن يؤثر بالإنسان وكذلك أسرته ومجتمعه ودولته ودينه وطائفته.. الخ.. ولكن هذا التأثير نسبي فهو يمكن أن يكون شبه مطلق حين لا يقوم الإنسان بتنمية كيانه المعنوي الداخلي حيث يتحول سلوك الإنسان الإرادي إلى ما يشبه المنعكسات اللاإرادية تحددها البيئة ويصبح الإنسان مسيراً بالكامل تقريباً من قبل وسطه المحيط. وبالمقابل يمكن أن يسعى الإنسان لبناء كيانه المعنوي الداخلي حتى يصبح معظم سلوكه ناتجاً عن قراراته الذاتية ويشعر بأنه مخير بالكامل ويصبح في هذه الحالة الإيجابية قادراً على التوجيه الطيب لرغبات جسمه والتغيير البناء غير التقليدي في بنية أسرته ومجتمعه ودولته والعالم أجمع من حوله.

 

من هنا يأتي التركيز على شخصية سيدنا “إبراهيم” باعتباره “أباً” للأنبياء فيما يسمى بالديانات التوحيدية وليس كما نتخيله عندما تم الانحدار بالدين إلى المستوى القبلي وتحول إبراهيم إلى “والد” للأنبياء. فقد كان إبراهيم بنفسه “أمة” لم يستسلم لبعض التقاليد الخاطئة للمجتمع والأب ولا لعواطفه الخاصة وسعى في تصحيحها. ومن هنا تأتي أهمية أن يعطي الإنسان نفسه فرصة للتفكير والتأمل وللمراجعة الذاتية وهي ما تحض عليه مختلف الأديان. ومن هنا أهمية إعطاء التعليم دوره العميق في تحفيز الطفل على التفكير والاكتشاف الذاتي وليس من خلال مجرد الانفاق غير المدروس على ميزانيات التعليم.

 

ثانياً: الكيان المادي للإنسان:

 

إن جسم الإنسان هو المظهر الأول الذي يقدم الإنسان نفسه من خلاله للآخرين. إنه البيئة المباشرة التي يمكن للكيان المعنوي للإنسان أن يظهر إنسانيته من خلالها. إن صفات جسم الإنسان ومؤهلاته البدنية وغرائزه الأولية ليست من ناحية المبدأ طيبة أو شريرة وليست هي التي تقيمه، ولكنها تشكل المجال الأول الذي يظهر فيه أثر إرادته ومبادئه. عندما يكون الكيان المعنوي للإنسان بدائياً فإنه غالباً ما يعبر الفرد عن نفسه من خلال جسمه بشكل مبالغ فيه فتجده مثلاً يحول الجنس والطعام إلى محور اهتماماته. يعتبر الصوم المؤقت مثلاً من أهم الوسائل التي تمكن الإنسان من التمييز بين كيانه المادي وكيانه المعنوي. وفي حال عدم وعي الإنسان للكيانات المتراكبة التي ينتمي إليها فغالباً ما يقصد بقوله “نحن بخير” أنه يؤمن الطعام والشراب لجسمه وكذلك عندما يقول “أوضاعنا صعبة” يعني بها غالباً أن هناك مشكلة ما في تأمين الطعام والشراب بنفس الشكل الذي كان معتاداً عليه سابقاً دون أن يأخذ في اعتباره وضع الكيان المعنوي للإنسان ووضع الحي ووضع المدينة والدولة وغيرها بعين الاعتبار. أما في حالة وعي الإنسان لطبقات الانتماء الأعلى فغالباً يخرج من سجن جسمه الفيزيولوجي وغالباً ما تزداد قدرته على التشارك و “الكرم” وفي الحالات الاستثنائية يتجاوز قيم “الكرم” إلى قيم “الإيثار”.

 

من أهم مظاهر الانحطاط الفردي والمجتمعي (والتي يعاني منها المجتمع السوري كما تعاني منها الكثير من المجتمعات) أن يخلط الإنسان بين انتمائه لكيانه المادي وكيانه المعنوي فيظن أنه شعوره بالانتماء للآخرين يعتمد على تقارب لون بشرته من لون بشرتهم أو تقارب طوله من طولهم أو قدرتهم على الحديث بنفس اللغة أو انتسابهم لنفس العرق. لا شك أن التقارب اللغوي أو القومي أو الشكلي أو الاقتصادي يسهل التواصل بين الناس ولكن سهولة التواصل شيء والرسائل التي تنقل من خلال التواصل شيء آخر. إن الإنسان الحق ينتمي أولاً إلى كيانه المعنوي وبالتالي يتحدد انتماءه العميق للآخرين بحسب عمق إحساسهم بتميز الإنسان وبعمق المشروع الإنساني الذي يساهمون فيه والذي يتجلى من خلال القيم المشتركة والعمل المشترك والإحساس بالكرامة الإنسانية المشتركة والدفاع عن المظلوم ونشر العدل والارتقاء بالمفاهيم و غير ذلك. كل تلك القيم هي ما يحدد عمق المشروع الإنساني المشترك. إن دفاع الإنسان عن المجرمين من أبناء عرقه أو طائفته أو دينه أو حارته أو تجاهله لهم مقابل اعتراضه على من يظنهم (أو لا يظنهم) مجرمين من أبناء الأعراق والطوائف والأديان و الحارات الأخرى لهو دليل على عمق الانحطاط الذي وصلت إليه المنطقة ويعرقل جهود بناء مؤسسات على مبادئ الحق والعدل وعموم النفع.

ثالثاً: العائلة:

تشكل العائلة أول مؤسسة مجتمعية متعددة الأبعاد. فبناء الأسرة مؤسس على جذر عميق مرتبط بالعاطفة والغريزة والفطرة. التجاذب الطبيعي بين الذكر والأنثى هو أهم عامل في تشكيل الممالك الحيوانية وهو نواة تشكيل الأسرة عند البشر. وكما أن جسم الإنسان يشكل غلافاً لكيانه المعنوي العميق المميز للكائن البشري والذي يجب أن يكون متناغماً معه كذلك فإن عقد الزواج لتأسيس الرابط العاطفي والغريزي بين المرأة والرجل يشكل غلافاً لشبكة هائلة من العلاقات المادية والمعنوية يتم من خلالها بناء الخلية الإنسانية الحضارية الأساسية والتي تحمل في أعماقها كل الأبعاد الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع وتسمح بمد المجتمع بالعناصر البشرية المعدة ثقافياً لحمل رسالته الإنسانية للأجيال القادمة. وكما يمكن أن يتقزم الإنسان ليتمثل فقط في غلافه المادي (جسمه الظاهر) كذلك قد تتقزم المؤسسة الزوجية في إطار لإشباع الغريزة الطبيعية وتفعيل عواطف الأمومة والأبوة فقط. بالطبع يترافق التقزم (الكامل أو الجزئي) للأفراد مع تقزم الأسر ويترافق مع ظاهرة تحول المجتمع إلى قطيع لا علاقة لسلوك أحد أفراده بسلوك باقي الأفراد.

 

إن نجاح المؤسسة الزوجية مرهون بفهم الزوجين للأهداف وللأبعاد المتعددة للمؤسسة الزوجية ولكيفية تحقيق هذه الأهداف. هذا بدوره يتطلب تعديل الإنسان لبعض عاداته الفردية ولطريقة تعبيره عن إرادته الذاتية لتصبح طبيعية أكثر ومنسجمة مع التركيبة العائلية. إن هذا التحول في طريقة التعبير عن الإرادة الفردية عند الزوجين يؤدي لولادة كيان الاسرة الأكبر الذي ستنضم إليه تدريجياً إرادة الأبناء وهذا ما سيتطلب من الزوجين منذ البداية الاتفاق على مرجعية مشتركة لحل الخلافات الطبيعية الطارئة. في حالة جهل أحد الزوجين بالطبيعة المؤسسية للأسرة فسيرى فيها دوماً صراعاً بين إرادتين أو أكثر وستتحول المؤسسة الزوجية بالنسبة له إلى متراجحة دائمة بين الفائدة التي يجنيها من إشباع الغريزة النسبي ومن تحقيق بعض المصالح نتيجة العيش المشترك من جهة وبين الضرر الناتج عن صراع الإرادات وما يظن أنه حرية فردية قد اضطر للتخلي عنها من جهة أخرى وهكذا تبقى المؤسسة الزوجية في حالة خطر دائم بسبب الانانية الناتجة عن الجهل.

 

تتطلب متانة كيان الأسرة (مثل كل المنظومات) أن تكون تركيبتها منسجمة مع أهدافها ويستحسن أن يعي كل عضو فيها دوره في تشكيل الأسرة وتتطلب أيضاً من المجتمع والدولة أن يطورا منظومة القيم ومنظومة القوانين المناسبة لتدعيم الأسرة. إن وعي كل فرد في الأسرة (من زوج وزوجة وأولاد) لدوره في بناء الأسرة وفق منظومة من القيم الراقية يساعد في تكوين الأسرة السعيدة وكذلك فإن وعي الفرد لدور أسرته في التفاعل الحضاري يساعد العائلة على المساهمة الفاعلة في بناء الأمة ومتابعة مسيرة الحضارة الإنسانية.

 

لقد كان لدينا قبيل احتلال المنطقة المسماة حالياً سوريا وما حولها (ولكثير من المناطق المشابهة التي تم احتلالها) مفهوماً واضحاً متعارفاً عليه للأسرة التقليدية حيث كانت أدوار الرجل والمرأة والولد واضحة وكانت أدوار الأسرة تتسع لتشمل العائلة الكبيرة من أجداد وجدات وأعمام وعمات وأخوال وخالات وما إليه. يستند هذا المفهوم في أغلب الأحيان إلى تفسيرات متراكمة للنصوص الدينية (سواء أكانت التفسيرات صحيحة أم لا). ولذا كان الزواج غالباً ما يكون مستقراً ولو اختلفت بيئة الزوج نسيباً عن بيئة الزوجة لأن لديهما تصورات متقاربة عن دور المؤسسة وعن دور كل منهما في المؤسسة (الاستقرار لا يعني بالضرورة أن شكل تلك المؤسسة كان مثالياً). هذا التصور التقليدي الذي كان شائعاً ومستقراً ما يزال يتعرض لهزات مختلفة منذ الاحتلال الاستعماري الذي أدى لصدمات متعددة كان أحد وجوهها ثقافياً ومجتمعياً. كانت المفاهيم المجتمعية عن الأسرة والمرأة تتغير في البلدان الاستعمارية نفسها. ولقد أدت الصدمات بين التصورات التقليدية والتصورات القادمة مع المستعمر إلى إنعاش الحركات الفكرية في المنطقة. بعض تلك الحركات كان لها اتجاه ينطلق من التصورات الوافدة مع المستعمر بينما كانت حركات أخرى تحاول الانطلاق من التصورات التقليدية والتي غالباً ما كانت ذات مرجعية تقليدية تتعلق بالإسلام فعلى سبيل المثال وكما سبق وذكرت في سلسلة “عيد الجلاء” قادت “هدى الشعراوي” في مصر حركة تحرر نسائي مواجهة للحياة التقليدية ومن ثم قامت مساعدتها “زينب الغزالي” بتشكيل حركة تحرر حاولت الانطلاق من الحياة التقليدية نفسها. للأسف لا أعتقد بأن تلك الحركة الفكرية قد اكتملت كي يكون هناك مراجعة مؤسسية شاملة لبنية الأسرة والأثر المتبادل بين تغير بنية الفرد وبنية الدولة والمجتمع على بنية الأسرة والسبب العميق لعدم وصول تلك الحركات إلى النضج الكامل يعود إلى تغير شكل السلطة بعد الحرب العالمية الثانية في المنطقة. فلم يمض وقت طويل جداً بعد انهاء الاحتلال الأجنبي المباشر حتى بدأت الانقلابات العسكرية في المنطقة واستقرت على احتلال مؤسسات الدولة من خلال أجهزة المخابرات التي حرفت كل المؤسسات عن أهدافها وبالتالي لم يعد للمجتمع أجهزة ذاتية قادرة على استيعاب حركته وعلى دراستها وعلى توجيهها بما يخدم أهدافه وبما ينسجم مع قيمه. فعلى سبيل المثال ما يسمى ب “الاتحاد النسائي” فيما يسمى ب”سورية” لم يكن إلا جمعية شكلية لتكريس سلطة المخابرات مثله مثل “حزب البعث العربي الاشتراكي”. أذكر أن قريبتي كانت مسؤولة كبيرة في ذلك الاتحاد النسائي وكانت تتضرع إلى الله خلال حملها الأول أن يكون جنينها “ذكراً”. وأذكر مثلاً برنامج “عالم الأسرة” التلفزيوني الذي كان يشرف عليه الاتحاد النسائي والذي كان مثله مثل البرامج القومية والوطنية الباهتة لا يجذب أحداً فكل تلك البرامج ما هي إلا أدوات شكلية ظاهرة ناتجة عن تحكم المخابرات السري وبالتالي فمن تختارهم المخابرات لن يستطيعوا تشكيل فريق حقيقي متكامل لدراسة مشاكل الأسرة. وفي حال قيامهم بمثل هذا النشاط فلن يكون تقيمهم على أساسه وإنما على أساس ولائهم للسلطة. إن سيطرة المخابرات الموازية تبقي على الوجود الشكلي لأجهزة الدولة بينما تتحكم هي داخلياً بإدارتها قد أدى لشلل مؤسسي تام. لقد تم شل الجمعيات الإصلاحية وتم شل المؤسسات الرسمية المكلفة بالشؤون الاجتماعية وتم شل البرلمان الذي يفترض أن ينتخبه الناس وأن يدرس مشاكلهم (ومن أهمها قضية الأسرة) ويسن القوانين المناسبة لحلها، ولكن كل ذلك لم يكن موجوداً. وأكثر من ذلك فلقد تم استخدام مؤسسات الدولة التي تم احتلالها من أجل تخريب بنى المجتمع التقليدية وإحداث التوترات المجتمعية حتى بدأ الناس يظنون أن “الدولة” هي كائن ضخم يعاديهم. فلقد قام رفعت الأسد على سبيل المثال بتشكيل ما يسمى بالمظليين والمظليات من طلاب الثانوية حيث يمنحون تلقائياً حوالي خمس وأربعين علامة إضافية من أصل 240 كي يدخلوا الفرع الجامعي الذي يرغبونه. تم استخدام المظليات في نزع حجاب النساء بالقوة في أسواق الشام التجارية وتم سن قوانين لنزع حجاب الفتيات في المدارس وتم تنفيذه.

وبسبب شل مؤسسات الدولة واعتقاد الناس أن لا دور لهم فيها فقد بذلوا جهودهم على مستوى العلاقات الشخصية لملائمة شكل المؤسسة الزوجية مع المتغيرات وتعددت اجتهادات المجتمع بشكل بدائي وغير منظم لمواجهة التغيرات التي طرأت على بنية المجتمع فعلى سبيل المثال و على الرغم من أهمية المؤسسة الزوجية فلا يتم تدريسها في أية مرحلة من مراحل الدراسة ولا يتم تأهيل الرجل أو المرأة لدوره الخاص الذي سيلعبه فيها. المعلومات المتعلقة بذلك التي يتلقاها الفرد شديدة العشوائية من ناحية المصدر والمضمون وغالباً ما تكون غريزية أو عن طريق الأصدقاء أو الأهل ولكنها على العموم لا تتعلق بالدور المجتمعي للمؤسسة الزوجية ولا بالتطورات النفسية التي ستطرأ على كل منهما خلال مختلف مراحل الحياة الزوجية!! كذلك تسبب شلل المؤسسات التعليمية المركزية بعدم تطوير مواضيع ومناهج تعليمية خاصة ببنية مجتمعاتنا وتحول التعليم نفسه إلى أسلوب تلقيني لا علاقة له بتوعية الإنسان ببيئته وزيادة قدرته على التعامل معها مما دفع الكثيرين لإيقاف تعليم أبنائهم في مراحل مبكرة وبشكل خاص تم تجميد تعليم الإناث. إن الانحطاط في هذا المجال يصل إلى درجات قد لا نتصورها بسبب جهلنا بما يحدث في مختلف شرائح الشعب المسمى بالسوري. لقد تم هدم المبنى الصغير الجميل الذي كان يقع أمام بيتنا محاطاً بالشجر بعد أن دفع تاجر البناء رشوة لموظف البلدية الذي عينته المخابرات وقد أنشأ تاجر البناء مكانها مبنى ضخماً بنفس الطريقة ولقد تفاجأت بأن من اشترى إحدى الشقق لا يكتفي بعدم تعليم بناته، بل ويقفل الباب بالمفتاح على زوجته عندما يغادر المنزل! إن الجهل قد يؤثر سلباً على بنية الأسرة وبالمقابل كثيراً ما يؤثر التعليم الطويل للفتاة المتفوقة على فرص زواجها وفرص نجاح ذلك الزواج فكثيراً ما تتطلب الحياة الزوجية التقليدية من الأنثى واجبات منزلية كثيرة تتعارض مع قدرتها على متابعة دراستها على الرغم من حاجة المجتمع وخصوصاً في بعض المجالات لذلك التأهيل. وأحياناً يدفع المتفوق ثمناً أسرياً كبيراً نتيجة لتفوقه فغالباً ما يؤدي التركيز على الدراسة الحفظية الطويلة إلى ضعف تواصله الاجتماعي وإلى عدم فهمه لأبعاد الأسرة وإلى اعتقاده بنفس الوقت بأن تفوقه المدرسي سيجعله متفوقاً في موقعه الأسري وسيصطدم غالباً عندما يشكل أسرته.. هذا ينطبق على بعض المتعلمين والمتعلمات من حملة الشهادات الجامعية والذين يظنون أن الشهادة الجامعية التي حصلوا عليها تسمح لهم بإنقاص الدور الذي عليهم القيام به في المؤسسة الزوجية على حساب الشريك!! تعاني الفتيات المتفوقات بشكل خاص نتيجة تجاوزها السريع للسن المرغوب مجتمعياً للزواج من جهة ونتيجة لكون الذكر في الحالة العامة هو الذي يبدأ “الخطبة” من جهة أخرى. كما تدفع الفتيات ذوات التخصصات الراقية ثمناً كبيراً نتيجة ذلك بسبب التوجه العام عند الذكور للزواج بفتيات ذوات تخصصات علمية أدنى. ونتيجة انفصام التعليم عن واقع الناس واعتقاد الناس أن لا علاقة لهم بالمناهج التي يتم تدريسها وبالمؤسسات التي تتحكم بهم قد تسمع بعض النصائح الموجهة للذكور والتي ستبدو شديدة الغرابة في الدول الطبيعية من قبيل “كي تنجح في الزواج فعليك بالصيدلانية”. كثيرة هي القضايا الخطيرة المتعلقة بالمؤسسة الزوجية والمتروكة للاجتهادات العشوائية غير المدروسة بسبب الخلل الكبير في بنية الدولة من قبيل: الأعباء المضاعفة التي تتحملها المرأة العاملة داخل المنزل وخارجه. التكاثر العشوائي للأولاد. الخ.. حتى الوعي الفردي عند الزوجين لا يمكن أن يعوض الدراسات التخصصية والتشريعات المنبثقة عن الهيئات المنتخبة لضمان استقرار الأسرة وقيامها بوظائفها فعلى سبيل المثال نجد في كثير من الأحيان أن طبيباً يتزوج بطبيبة ويكون زواجهما ناجحاً لعدة سنوات وكل منهما يعمل في عيادة مختلفة وبعدها نجد أن الطبيب يتزوج ممرضته التي يبقى معها من الصباح إلى المساء.

 

على الرغم من كون نواة الكثير من المجتمعات في الدول الحديثة هي الفرد وليست الأسرة (كما يفترض) إلا أن منظومة الأسرة تبقى في تلك المجتمعات في حالة دراسة مستمرة في تلك الدول من قبل جمعيات ومراكز بحث وهيئات متخصصة ومنتخبة تقوم بإجراء الدراسات وبالتوعية وتقوم أيضاً بسن القوانين التنظيمية التي تربط شكل الأسرة بمواصفات سكنها وتربط حاجات الأسرة بتعويضاتها وتؤمن لها سلامتها الصحية والنفسية. كما تقوم الهيئات المختصة بنشر القيم في تلك المجتمعات من أجل تحقيق الانسجام بين الربط الفطري بين الذكر والأنثى وبين كل قطاعات الحياة الاقتصادية والاجتماعية وبين الاستمرارية العضوية والثقافية للمجتمع. كل ذلك لا يعني أنه وحتى في تلك المجتمعات تعاني بنية الأسرة أخطاراً كثيرة فما بالنا بوضع الاسرة في بلادنا.

إن البناء غير المدروس للأسرة في منطقتنا منذ عقود وعدم إدراك كثير منا للعلاقة العميقة بين تكوين الفرد وبين بنية الأسرة من جهة وبين حركة الأسرة والحركة المجملة للمجتمع قد أثر على بنية المجتمع الحالي وسيؤثر على بنية المجتمع القادم وهذا لا يمكن حله إلا بالاعتماد على مؤسسات دولة حقيقية. إن الجهل يصل في بعض الأحيان إلى حد تجاهل قانون السببية بناء على قواعد يظنها الناس “إيمانية” فمثلاً ينقل لي صديقي اللبناني عن قريبه مدير مشفى التوليد في منطقته أن عدد ولادات الأطفال للسوريين النازحين في المنطقة يعادل أربعة أضعاف نسبة ولادات اللبنانيين الذين يستقبلونهم!! كما يمكن لمن يتابع أخبار ضحايا البراميل والصواريخ والقذائف أن يرى بأن عدداً كبيراً من الأطفال عمرهم أقل من خمس سنوات وبالتالي فقد تم إنجابهم (عشوائياً) خلال فترات القصف العشوائي!! من الطبيعي في حالة عدم وجود الوعي الكافي وعدم بناء الأسرة بشكل مدروس أن يكون للمسلسلات التركية المدبلجة ذلك التأثير على الحياة المجتمعية ومن الطبيعي أن نتفاجأ بنسبة حالات فسخ الزواج للعائلات السورية التي وصلت مهاجرة إلى أوربا حيث تختلف البنية الاقتصادية للأسرة.

 

في الأوضاع الحالية تفاقمت مشاكل الأسرة السورية المتناثرة وهي مشاكل ينظر إليها على أنها ثانوية عندما تقارن بأشلاء ضحايا البراميل والقذائف وإن كانت على المدى البعيد أخطر منها بكثير. فمنها مصائب الأيتام ومنها مصائب المعاقين ومنها مصائب النازحين ومنها مصائب المهاجرين ومنها مصائب الأسر الموزعة في داخل سوريا والمتشظية في أنحاء العالم ومنها كيفية تشكيل الأسر الجديدة القابلة للاستمرار في ظروف استثنائية لأناس عاشوا دوماً بطرق تقليدية.

 

طبعاً تجهيل الناس بمعنى الدولة وعدم مشاركتهم في اختيار مديريها وعدم المشاركة في أعمالها إلا كمنفعلين تتحكم بهم المخابرات يجعلهم غير مدركين لواجباتهم تجاه مؤسساتها المركزية ولمسؤوليتها عن الشعب السوري وبالتالي تنحصر الدولة في رؤوسهم بمعنى “السلطة”.. ونتيجة ذلك فكل المشاكل العميقة المتعلقة بمستقبل البلد وبتركيبته المجتمعية ومآسيه الأسرية إنما هي أداة مثل البراميل والقذائف والجرات تستخدم لابتزازه واستسلامهم لأجهزة المخابرات المحلية والدولية سواء اتخذت شكلاً قومياً أو دينياً

سنتابع شرح باقي انتماءاتنا المتداخلة في المرة القادمة إن شاء الله

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

(الروم 21)

الآية الكريمة مشهورة وهي تبين أساس أحد أهم الكيانات التي ننتمي إليها. هذه الكيانات التي لا يمكننا حل مشاكلنا الكبرى دون فهمها وفهم العلاقات فيما بينها.

الأسرة هي خلية المجتمع الإنساني الأساسية.

إنها مجتمع إنساني صغير يتأسس على العواطف ويلبي الاحتياجات، ولكن لا بد له من تنظيم عادل للحقوق والواجبات لتحقيق مشاريعه اليومية والبعيدة.

في الأسرة قد يوجد العادل والظالم أو الأناني والمضحي، ولكن ضمن هذه الخلية الأسرية الدقيقة يصعب أن تتدخل مؤسسات المجتمع الكبير ويبقى المفهوم السليم للأسرة في أذهان الأب والأم والأولاد وإحساسهم بمراقبة الله لهم وبرضاه عنهم هو الأساس المتين لبناء الأسرة

المجتمع السليم يساعد على تشكيل أسر متماسكة والمجتمع المريض يساهم في نشر الأمراض الاجتماعية في أسره. والعكس صحيح فالأسرة المتماسكة تبني المجتمع والأسرة المفككة تستهلك قدراته

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات من السلسلة

من لطائف اللغة أن “الحي” والحياة تشتقان من جذر واحد. في محاولتنا لحل مشكلتنا تساءلنا “من نحن؟” نتابع هنا محاولتنا للإجابة من …

نتابع هنا محاولتنا لفهم الكيانات التي ننتمي إليها بشكل شعوري أو لا شعوري. يبدو هذا الفهم ضرورياً لتحقيق الانسجام والنهوض من دون …

كيف نُشبع حاجتنا للشعور بالانتماء؟ الشعور بالانتماء هو حاجة طبيعية وهو شعور غريزي (أو ربما السلوك الناتج عنه هو سلوك فطري) لذا …

ليست الغاية من السؤال هنا هي تحديد المؤمن من الكافر أو معرفة من سيدخل الجنة ممن سيدخل النار. ليست الغاية هنا تحديد …

مقالات علمية

The current query has no posts. Please make sure you have published items matching your query.

مقررات تعليمية