رأينا في الحلقة الماضية بعض المغالطات المتعلقة بمعنى الانتماء “العربي” فأصل البشر ليس كما يتم تصويره على أنه قبائل منفصلة متحاربة منذ بدء الخليقة. بل البشر أقرباء وهم من أسرة واحدة توزعوا لقبائل وشعوب وتلك القبائل والشعوب كانت في حالة تبدل وتمازج مستمر وخاصة في منطقة بلاد الشام مركز العالم الجغرافي وبشكل أوسع في المنطقة التي تدعى بالشرق الأوسط.
هل القربى تعني التقارب؟
إن توصيف الروابط بين سكان ما يسمى “الوطن العربي” وبشكل أوسع “الشرق الأوسط” والمناطق التي حوله على أنها روابط “عرقية” هو توصيف مخادع ولقد تم تمريره بشكل بطيء خلال عشرات السنوات وتم إلباسه الأثواب المزركشة ليكون جذاباً وخصوصاً للأجيال المتتالية التي أصبحت جاهلة بتاريخها منفصلة عن واقعها نتيجة عوامل ذاتية وعوامل خارجية ووجود هذا الخلل في التصور اليوم لا ينفي استخدام هذه العصبية القبلية الجاهلية في مرحلة ما في عصور الانحطاط أثناء التاريخ الطويل.
فالحقيقة هي أن في منطقة الشرق الأوسط ومنذ القديم قبائل متداخلة تتحدث لهجات متقاربة أو متباعدة من عائلة اللغة العربية (ومنها الآرامية والعبرية وغيرها) ومن عائلة اللغة الفارسية (ومنها مختلف اللهجات الكردية) وعائلة اللغة التركية والريفية والأمازيغية وغيرها. والتقارب بين لهجتي قبيلتين لا يعني تعاونهما أو تقاربهما في المصالح أو بأن لديهما شعوراً بالانتماء المشترك!
هل العلاقات الأخوية العميقة في المنطقة هي نتيجة ترحال القبائل البدائية؟
إن تقديم العلاقات الحضارية التي تربط شعوب المنطقة على أنها نتاج ترحال قبيلة هو تصور كاريكاتيري. إن تصور أن هناك قوم أجلاف اسمهم العرب خرجوا بمرحلة ما من شبه الجزيرة العربية وفرضوا ثقافتهم المتخلفة على سكان المنطقة هو تصور مضحك تم توظيفه سياسياً واجتماعياً لعشرات السنوات من قبل مؤسسات درست تركيبة هذه الشعوب بشكل عميق وتستخدم هذه الدراسات لتخريب العلاقات بين شعوب المنطقة. وكثير ممن يهاجم العرب أو يدافع عنهم يركّز هذا المفهوم المغلوط بسبب سوء الفهم أو سوء النية.
هل مفهوم الأمة العربية بالشكل الذي استعمله القوميون كان موجوداً عند أجدادنا؟
في المعاجم العظيمة التاريخية للغة العربية لا يوجد ذكر للأمة العربية بالشكل الذي يتم تصويره اليوم وهو شكل جاء بالعدوى. فلقد بُنيت الدول الأوربية الحديثة على أساس قومي لذا قام بعض المفكرين بالبحث عن قومية تُبنى حولها دولة كالدول الأوربية الحديثة وفي نفس الفترة في بداية القرن العشرين ظهرت الدعوات القومية العربية والتركية والأرمنية والكردية وغيرها.
هذا التصور عن “الأمة العربية” لم يكن موجوداً أبداً ولو اطلعنا على تعريف كلمة “عَرَب” في المعاجم “العربية” والتي كُتب معظمها في عهود الحضارة العظيمة التي يسميها بعضنا الآن بالحضارة “العربية” لما وجدنا في تلك المعاجم أي ذكر للحضارة “العربية” أو للأمة “العربية” أو لحدود الوطن “العربي” من المحيط إلى الخليج فكل ما يقوله معجم مختار الصحاح مثلاً عن العرب هو أنهم “جيل من الناس” دون أن يذكر المؤلف من هو ذلك الجيل من الناس وما علاقة الكاتب به بينما عندما يتحدث عن العربية فهو يقول “هذه اللغة” (لغة المعجم نفسه). وفي معجم القاموس المحيط وخلال صفحة كاملة تشرح المادة “ع ر ب” نجد تفصيلات تتعلق باللغة وبالإعراب وبالخيول وبالشعير. فكلمة “عربي” هي نسبة إلى اللغة العربية وليس إلى الوطن العربي. ولا يوجد “عَرَب” بالمعنى الذي نستخدمه. بينما يوجد كلمة “العُرب” (بضم العين) وتم شرحها بالشكل التالي ” وهم خلاف العجم وهم سكان الأمصار!” بينما الأعراب هم سكان البوادي. فالقاموس يميز بين نمط الحياة المدني ونمط الحياة البدوي دون أن يجمع النمطين ضمن إطار أمة قومية ذات ثقافة مميزة عن باقي الأمم.
هل شبه الجزيرة العربية كانت مصدر نزوح بشري أم منطلق رسالة إنسانية؟
إن الذي انطلق من شبه الجزيرة العربية في القرن السادس لميلاد السيد المسيح ليس “عرقاً بشرياً” ولكن الذي انطلق هو رسالة قد يؤمن بها بعض الناس أو لا يؤمن ولكنها تلك الرسالة الإنسانية العالمية التي تنبه الإنسان إلى أنه عاقل ولذا فهو مسؤول وسيحاسَب وأنه قادرٌ على كشف الأنظمة الكونية لذا فهو مسؤول عن فهمها وفهم ما ورائها وأن لكل ما في الكون هناك معنىً ولذا فيجب كذلك أن يكون لأفعاله معنى وأن يكون لحياته هدف ولذا فهي تطالب الإنسان بأن يكون قدر استطاعته واعياً ومتنبهاً ومفكراً ومتعلماً ومعلّماً ومبدعاً متحرراً من كل الأوهام وخاصة الأوهام الدينية خلال حياته المحدودة على سطح الأرض كما تطلب منه أن يكون متواضعاً ولكن عزيزاً كريماً وتطلب منه أن يكون متعاوناً و متكاملاً مع الجماعة ومع باقي البشر ليكون مع أخيه كالبنيان المرصوص وهو مسؤول عن توظيف أقصى إمكاناته لفعل الخير لنفسه ولأسرته ولمحيطه وللبشرية عبر أجيالها بل وللكائنات وللأرض من حوله.
هذه الرسالة.. هذه الفكرة.. هذه العقيدة.. لم تكن معلّبة ضمن شخص تنتقل بانتقاله وتموت بموته. بل إن هذه الرسالة بمعانيها هي التي انتقلت من إنسان إلى إنسان ومن قبيلة إلى قبيلة ومن شعب إلى شعب ومن أمة إلى أمة ومن جيل إلى جيل حتى أزيلت تلقائياً الحدود الوهمية ومشاعر العصبية القبلية بين معظم أمم الأرض التي آمنت بتلك الرسالة وأصبح مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثل الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى. استطاعت تلك الرسالة عبر فروضها التعبدية (الصلاة والصيام والزكاة والحج) وأحكام معاملاتها أن تربط يشكل عجيب مشاعر وثقافات وجهود كل من آمن بتلك الرسالة من الصين إلى المغرب خلال مئات السنين. أدرك من فهم الرسالة أن العلم فريضة وتعاون البشرية كلها فريضة وأصبح الموروث الثقافي للبشرية من فارس والهند واليونان وغيرها تتم مراكبته لتتكامل العلوم التي نسميها اليوم بالدينية وبالدنيوية أو بالنظرية وبالتطبيقية وليتكامل فكر بني البشر لينير على كل الأرض من جديد. وفي العصر العباسي كانت المرة الأولى التي تتكامل فيها بشكل إرادي تشاركي كل هذه الحضارات في صيغة إنسانية شاملة منفتحة على كل البشر.
هل العربية هي لغة عرقية عصبية؟
أصبحت اللغة التي نقلت الرسالة الإنسانية هي المؤهلة بشكل طبيعي لنقل تفاصيل العلوم بدقة. فاللغة التي تسمح للإنسان الشاعر بالتمييز بين حالات الإنسان النفسية ستكون مطواعة بيد العالم الذي يرغب بالتوصيف العلمي للعلاقات المادية. ولنأخذ مثالاً عن الوصف الدقيق لعواطف من يقع في الحب. هذا الوصف الذي لن يتوفر إلا جزئياً في اللغات الأخرى: الودود والمحب والعاشق والولهان والمشتاق والملتاع والصب والغريم والمتيم وغيرها.
اللغة العربية كانت هي اللغة التي استعملها علماء تلك الأمة كي يراكموا من خلالها علوم الأمم الماضية وليبنوا فوقها طبقة جديدة من العلوم الإنسانية التي طورها علماء ذلك العصر وقدموها إلى كل أمم الأرض كي تُبنى فوقها الحضارة الإنسانية الحديثة.
لم تتردد اللغة العربية في استيراد مصطلحات اللغات الأخرى بدون أي تعصب أو عقد نفسية فمصطلح “مهندز-مهندس” من الفارسية ومصطلح “فلسفة” من اليونانية وقام علماء الحضارة آنذاك بتوليد كل المصطلحات الجديدة التي يحتاجونها بالاعتماد على القواعد الذاتية الغنية للعربية فقدمت اللغة العربية المصطلحات العلمية كمصطلح “صفر” و”خوارزمية” الذين هما أساس العلوم الرقمية إلى كل لغات العالم.
لقد تكاملت جهود العلماء آنذاك على اختلاف أصولهم لتطوير مختلف العلوم بما فيها تطوير وتقعيد ما يتعلق باللغة “العربية” نفسه. فمثلاً “كتاب سيبويه” في النحو ما يزال من أهم الكتب المرجعية في اللغة ويستطيع أي منا أن يفهمه وهو مكتوب من أكثر من ألف ومئتي سنة مع أن سيبويه من أهم علماء العربية مع أنه لا علاقة له بشبه الجزيرة العربية! والخط “الفارسي” هو من أجمل وأرشق خطوط اللغة “العربية”. فاللغة العربية هي وعاء يجمع الحضارات وليست ملكاً لقوم أو قبيلة والأقرب للعربية هو الأقرب سلوكاً لروح الحضارة الإنسانية التي اجتمع حولها بنو آدم وليس هو الأقرب جغرافياً لشبه الجزيرة العربية وليس هو الأقرب لوناً من سكان تلك الجزيرة.
في سلسلة محاضراتي عن “الميساء الأصيلة” يمكن أن نرى بعضاً من المقارنات العلمية بين العربية واللغات الأخرى وخاصة الإنكليزية والفرنسية ضمن إطار علم “نظرية المعلومات”
يكفي أن نطلع على ألقاب وأسماء وأماكن ولادة علماء الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها من المجالات من أعمدة الحضارة الإنسانية في القرون الوسطى كي ندرك بأنهم جميعاً قد أتوا من مختلف أنحاء المعمورة تكاملت جهودهم في الحواضر وخاصة في عاصمة العالم الوليدة آنذاك “بغداد” التي أصبح عدد سكانها حينها مليوني نسمة حينما كان عدد سكان العالم كله مئة مليون نسمة فقط. واللغة العربية استخدمها كل هؤلاء وأكثر من ذلك فلقد طورها ووسعها وقعّدها كل هؤلاء فهي ملك لكل هؤلاء.
هل فرضت القبائل البدوية لغتها على الناس؟ أم أن العربية هي لغة اختارها أولئك الناس؟
لقد أصبح هناك جسم انساني عام يجمع سكان المنطقة وما حولها (ولو اختلفنا على تفاصيل الحدود السياسية للولايات والدول والممالك). لقد أصبحت اللغة “العربية” هي وعاء الانتماء الإنساني الجامع في القرون الوسطى الذي تتواصل من خلاله الشعوب وتتكامل الحضارات وتُعبر من خلالها عن عواطفها ويكفي أن تطلع على أسماء الناس اليوم في تشاد والسنغال وتركيا وإيران وأندونيسيا وماليزيا والهند وباكستان لتعرف أن كثيراً منها له أصل في اللغة العربية. صديقي الأندونيسي سمى ابنته الأولى “أخلاق حميدة” وابنته الثانية “قرة عين”! وصديقي الكردي هو من أفضل المدرسين في مدرسة تعليم العربية التي أسسها إخوتنا البربر (من الريف المغربي) في فرنسا!
والقضية ليست فقط قضية لغة علمية. فتحابُبُ البشر وتعاونهم هو سبب تقاربهم واللغة هي أهم أدواته فالتواصل بين الناس هو أول شروظ تقاربهم .واللغة العربية كانت وما زالت هي لغة التواصل والتكامل والتحابب والتوادد. ورغم السيطرة الاستعمارية ومحاولة تدميرها الممنهجة في مختلف أنحاء العالم إلا أن اللغة العربية هي إحدى اللغات الخمس المعتمدة في الأمم المتحدة (والتي أصبحت ستة بعد إضافة الصينية). فاللغة العربية ليست لغة خاصة بقبائل بدوية عربية وهي ليست في حالة عداوة مع الأكراد والأمازيغ وغيرهم . ولكن اختلاق هذه العداوة يؤدي لتدمير اللغة الثقافية الجامعة لهذه الشعوب مما يؤدي لتدمير ثقافة هذه الضعوب وتفريقها. لقد كانت اللغة العربية من وسائل تواصل الناس و تواددهم وتحاببهم وتراحمهم, يمكن أن نرى مثلاً كيف يتقارب كردي عراقي عندما يلتقي بأمازيغي مغربي في أوربا عندما يتحدثان ويتواددان باستخدام لغتهما العربية الفصحى.
العربية هي وعاء شامل شديد السعة للمفردات العاطفية والروحية والفلسفية المتراكمة المتميزة وتجهيل الناس بهذه المفردات يضعف قدراتهم الذاتية العاطفية والروحية والنفسية ويحرمهم من الخبرة البشرية المتراكمة في هذا المجال لأكثر من ألف سنة. فمعظم عبارات التبريك في الأعياد والزواج وعبارات المواساة في مناسبات الوفاة و الأحزان لكل الشعوب الإسلامية تستخدم تعابير عربية عميقة.
هل العربية ملك للمسلمين فقط؟
صحيح أن جذر الرسالة الإنسانية العميق هو الدين ولقد انتقل بالتدريج معظم سكان بلاد تلك الحضارة إلى الإسلام، ولكن الرسالة نفسها في جذرها منسجمة مع انتماء أبناء ديانات أخرى لهذه الحضارة وخصوصاً من يسمون بأهل الكتاب. فمثلاً: لفظ الجلالة “الله” هو نفسه يستخدمه المسلمون والمسيحيون واليهود والصابئة وغيرهم. و”عبد الله” هو اسم مستخدم عند أتباع مختلف تلك الديانات. وبعض الشخصيات المسيحية واليهودية مشهورة في تاريخ هذه الأمة وفي بناء حضارتها . لا أعتقد أن مناهج تعليم العربية قديمها وحديثها قد خلت من شعر الأخطل المسيحي أو السموأل اليهودي.
للأسف نحن نترجم كتب المؤرخين الغربيين مستخدمين مصطلح “الحروب الصليبية” بينما في الأصل تم توظيف مصطلح أكثر دقة لا بعيد عن اتهام الصليب وهو مصطلح “حروب الفرنجة” وبعض من مسيحيي بلاد الشام جاؤوا مع تلك الحروب من الغرب واستوطنوا ومع الزمن أصبحت لغتهم هي العربية. كذلك حوالي نصف يهود دمشق في القرون الماضية ونسبة كبيرة من يهود المغرب هم من اليهود الذين هربوا من اضطهاد محاكم التفتيش في الاندلس وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من سكان البلاد وأصبحت اللغة العربية هي لغتهم الأم.
ما تاريخ اللغة العربية؟
مرجعية اللغة العربية تعود إلى الشعر الجاهلي والقرآن الكريم وكانت هي المركب الذي نقل الرسالة فُحفظت بحفظها ولذا اهتم علماء العربية بمرجعها الأول “القرآن الكريم” واهتم علماء الدين بلغة الرسالة وهي “العربية” ومنذ أكثر من ألف ومئتي عام ظهرت علومها ومعاجمها وهي من أقدم معاجم العالم . هذه المعاجم التي تتميز عن باقي لغات العالم بأنها معاجم ما زالت تستخدم إلى اليوم لأن العربية لغة حية تكبر ولكنها تحافظ على أصالتها بينما أقدم المعاجم المستخدمة حالياً للغات العالم الحية لا تعود لأكثر من أربعمئة سنة.
لقد أصبحت العربية كما أسلفنا هي وعاء الحضارة الإنسانية في القرون الوسطى .منارات تلك الحضارة تجلت في مدنها من الهند إلى الأندلس. وبالتدريج كانت مفردات العربية تزداد غنى باستمرار وتنتقل حواضرها ولم تتفتت اللغة بسبب وجود مرجعية لهذه اللغة بخلاف لغات العالم الاخرى.
من الطبيعي أن يكون هناك لهجات عامية متغيرة متعددة بدرجات مختلفة بحسب مواقع تلك الحواضر فالعربية بمختلف لهجاتها أصبحت الحياة اليومية والعلمية والاقتصادية والثقافية في كل الحواضر الإسلامية، بل وغير الإسلامية فلا يوجد لغة من لغات العالم (غير المعزولة) اليوم إلا وفيها نسبة من الكلمات العربية وإن كانت تتناقص مع الزمن مع تسارع التغيرات منذ الثورة الصناعية
نعم كل تلك الحواضر أصبحت بالتدريج تتكلم العربية بشكل ما. يتعلق ذلك الشكل بقصتها التاريخية وبموقعها الجغرافي، ولكن ذلك لا علاقة له بالضرورة بالأصل العرقي لسكان تلك الحواضر فبعد ألف وأربعمئة سنة من الاندماج المتتالي لبني آدم من مختلف أصقاع الأرض في مدن مركز العالم الجغرافي من المضحك أن نتكلم عن الانتماء العربي بالمعنى العرقي لسكان مدينة حلب أو دمشق مثلاً وكأنهم هاجروا من شبه الجزيرة العربية.
ومع الجهل بالقصة الحضارية في المنطقة قد يخطئ بعض الناس ويظنون مثلاً أن قبائل البدو الرحل في بادية الشام تتحدث العربية الفصحى بشكل أفضل من سكان مدن بلاد الشام بما فيهم من هم من أصل تركي أو شركسي أو كردي أو أفغاني أو بوسني أو غيره فمثلاً كثير من لهجات بدو بلاد الشام تخلط بين حرف “الضاد” و “الظاء” بينما سكان المدن والقرى في بلاد الشام لا يقعون بذلك الخطأ و عند كثير من قبائل البدو في شبه الجزيرة يمكن البدء بحرف ساكن أو بلفظ حرفين ساكنين متتاليين بخلاف أصول العربية ولكن سكان مصر ليسوا كذلك. ولا يمكن القول كذلك أن ارتباط القبائل البدوية العربية بالرسالة الإنسانية الحضارية التي حملتها هذه المنطقة هي أقوى من ارتباط القبائل الكردية بتلك الرسالة.
أليست خريطة الوطن العربي هي نفسها خريطة الناطقين بالعربية؟
يبين الشكل الموضح في الصورة توزع البشر الذي يتحدثون باللهجات العربية المختلفة كلغة أم اليوم وهم يشغلون مساحة أكبر بكثير مما تمت تسميته بالوطن العربي وقد كنت أرغب لو أتيح لي الوقت بأن أقوم ببعض البحث لأرسم الدول التي تتكلم العربية بنسبة خمسين بالمئة فما فوق لنرى كيف أنها تشمل جزءاً كبيراً من العالم نفسه اليوم. بل ربما يجدر بنا أن نرسم خريطة تبين نسبة تحدث مختلف دول العالم كلها بالعربية فمثلاً التركية والفارسية والأوردية والأذرية والسواحلية تأخذ الكثير من العربية، بل حتى الاسبانية والبرتغالية والتي يتكلم بها معظم سكان أمريكا الجنوبية (عشر كلماتها تقريباً عربية).
لقد بقيت اللهجات المحلية واللغات المحلية أقل تأثراً كلما ابتعدنا عن مراكز المدن الكبرى ثم القرى وبقيت موجودة في بشكل أكبر في القبائل الرحل ولذا نجد أن معظم أبناء المدن سواء أكانوا من أصول بدوية أعرابية أو كردية أو شركسية قد نسوا لهجاتهم أو لغاتهم الأم بعد عدة أجيال.
هل قصد المستعمرُ تكريس الصورة البدوية عندما أوحى باستخدام مصطلح “عرب”؟
يمكن أن نبحث على غوغل عن كلمة arab ونرى الصور الناتجة عن البحث! لن نجد بالتأكيد أي شيء مرتبط باختراع النظام الرقمي أو الخوارزميات أو ببلاغة اللغة العربية أو باختراع آلة القانون أو بوضع قوانين العدسات وآلات التصوير. سنجد صوراً لبدو بلباسهم التقليدي. المشكلة هنا لا تتعلق بمحرك البحث بل بالمصطلح الذي استخدمناه للتعبير عن مجتمعاتنا بإيحاءات خارجية!
قبل أن نتم الحديث لا بد أن نشير إلى أن انتماء الإنسان إلى قبيلة بدوية أصيلة أو إلى مدينة عريقة لا يدل على سمو أو انحطاط أخلاقه. ولكن كما سبق فإن المعارف الإنسانية تتركز وتتراكم في المدن. فلماذا تم استخدام مصطلح “العرب” للتعبير عن بلادنا؟ هل لأننا نتكلم العربية أم لأننا بدو؟
لقد كانت كلمة “عرب” (بفتح العين والراء) في كثير اللهجات تعني “الأعراب” أو “البدو” أو إحدى القبائل البدوية ومما تبقى في لهجاتنا الشامية مما يتعلق بذلك “السمن العربي” أو “عرب الحديديين” وإن كنا نستخدم لاحقاً أيضاً “البيت العربي” للدلالة على بيوت المدن قبل أن يغزوها نمط “البيت الإفرنجي”.
وكما ذكرنا عند حديثنا عن تطور معنى “سورية” فلقد انتشرت النظرية القومية في أوربا خلال البحث عن هوية جامعة للناس لتشكيل الدول في القرن التاسع عشر وانتقلت بشكل طبيعي أو مصطنع إلى بلادنا حيث كان نشر فكر تميز القومية التركية الطورانية وتميز القومية “العربية” من أهم العوامل الفكرية التي فتتت الإمبراطورية العثمانية المريضة (بتشجيع دول الحلف المواجه لألمانيا والامبراطورية العثمانية) وترافق نشر تلك المذاهب مع تحريك العشائر البدوية بناء على مراسلات الشريف حسين ومكماهون وبناء على مخططات لورنس لضرب سكك الحديد وخطوط التلغراف لقطع أواصر الإمبراطورية العثمانية. وعلى ما يبدو فإن النظرة البريطانية لسكان المنطقة كانت فعلاً على أنهم “عرب” بمعنى “البدو” ولذا كان قد تم وعد الشريف حسين بإقامة دولة “عربية”.
وطبعاً تم إخلاف الوعد ولم يتم تأسيس دولة لهم في شبه جزيرة العرب. وعندما تم تفتيت المملكة السورية الوليدة أنشأت بريطانيا إمارة شرقي الأردن عام 1923 ستتوافق مع المخطط القادم الذي يتطلب فصل فلسطين عن العراق وسوريا المصغرة وشكل الضابط البريطاني فريدريك لتلك الإمارة جيشاً من عدة مئات من البدو الذين شاركوا في عمليات ضرب خطوط الحديد العثمانية وتم وضع أولئك تحت قيادة الضابط البريطاني غلوب وسمت ذلك الجيش بالجيش “العربي”.
أما خريطة “الوطن العربي” فنتجت عن اتحاد دول “الجامعة العربية”. هذا الاتحاد الذي وُلد كما يقال (بتوجيه بريطاني) وهي نفس الصفة التي استخدمتها بريطانيا سابقاً في مراسلات “الحسين-مكماهون” لوصف “المملكة العربية. مع أنها ذات حدود سياسية لاعلاقة لها بأي توزع جغرافي عرقي أو حضاري عربي. ويبدو أن الجامعة كانت للإشباع الجزئي للشعب الموحد حضارياً في المنطقة الذي كان يرفض الحدود التي وضعت فيما بينه فتم تأسيس الجامعة في مارس (آذار) 1945 ومن بنود التأسيس: الاعتراف بسيادة واستقلال الدول المنضمة إلى الجامعة بحدودها القائمة فعلاً!
لقد كرست المناهج التعليمية هذه المغالطات!
لدي صديق فلسطيني درس الابتدائية في الجزائر وتابع الإعدادية الإعدادية في المملكة الأردنية الهاشمية ولكنه تفاجأ لأن المناهج الجزائرية تصف الفرنسيين بالمحتلين و تصف العثمانيين بالدولة الشرعية بينما المناهج الأردنية تصف الامبراطورية العثمانية بالمحتل وبالتالي بريطانيا ساعدت الأردن على التخلص من هذا المحتل.
للأسف فإن المناهج المدرسية في مختلف دول العالم وحتى في كثير من الدول المتقدمة لا تبدأ بتعريف الطفل على تميز الإنسان وعلى الاعتزاز بالانتماء للجنس الإنساني ثم بتعريفه ببلده وبشعبه كجزء من الإنسانية. إن التعليم مبني لينسجم مع بنية الدولة السياسية وأهدافها الاستراتيجية وفي مختلف دول العالم يتم تحوير التاريخ ليوحي للطالب بأن الشعب الذي ينتمي إليه هو أرقى شعوب العالم وهذا ما ينمي الصراعات لاحقاً ويهدد السلام العالمي.
على الأقل الدول المتقدمة فيها مؤسسات تنظم حركة شعوبها وطاقتهم وتؤمن احتياجاتهم لأنها تعي ذاتها وتعي موقعها ضمن العالم ولذا فإن التربية الوطنية تدفع الإنسان للمساهمة الإيجابية في بناء تلك المؤسسات.
أما في منطقتنا التي تم تقسيمها إلى دول بناء على مصالح الدول الكبرى نتيجة الحرب العالمية الأولى والثانية فإن المناهج “الوطنية” و “القومية” المصطنعة تكرّس في أذهاننا الحدود المغلوطة لما يسمى بسوريا ولبنان وغيرها وكذلك لحدود ومعنى الوطن العربي. إن خطر هذه المناهج لا يقترص على توليد مشاعر وهمية بل يتعدى ذلك إلى توليد حالة عجز عام للشعوب عن تأمين احتياجاتها وتنظيم حياتها لأنه بعكس الدول المتقدمة لا توجد مؤسسات وطنية عريقة تحمي المواطنين وتؤمن احتياجاتهم ولذا لا يتحول الشعور الوطني والقومي إلى عمل مفيد وفي كثير من الأحيان تصب الحركة العشوائية للمنفعلين بالشعور الوطني والقومي في مصلحة الديكتاتوريات المحلية والاستعمار العالمي. هذا ما يمكننا من فهم كيف ساعدت العاطفة على تحكم الحكام الديكتاتوريين العرب فيما يسمى بالوطن العربي في القرن الماضي.
هذه المناهج الوطنية والقومية المصممة على قياس الحكام تجعلنا نتصور أن هناك صراعاً تاريخياً في المنطقة بين أعراق منفصلة في المنطقة بعضها يسمى بالعرق الأمازيغي أو الريفي أو العربي أو الكردي أو التركي.
صحيح أن تاريخ المنطقة لم يكن دوماً مشرقاً ، ولكن علينا دراسة التاريخ بهدف الوعي للماضي الإنساني وليس بهدف فرض انتماء يقيد تصور الأطفال ويمنعهم من التعاون في المستقبل. ودراسة التاريخ المحلي يأتي بعد أن يفهم الطفل أنه أرقى الكائنات لأنه إنسان وأنه يتوجب عليه أن يتعاون مع أخيه الإنسان في المنطقة وفي كل مكان. وأن التاريخ من الماضي فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم.
يجدر الذكر أن منهج التاريخ في المرحلة الثانوية في سورية في عشرينيات القرن الماضي كان يتضمن “تاريخ الحضارة الإنسانية” الذي ترجمه العلامة محمد كردعلي !