كيف نُشبع حاجتنا للشعور بالانتماء؟
الشعور بالانتماء هو حاجة طبيعية وهو شعور غريزي (أو ربما السلوك الناتج عنه هو سلوك فطري) لذا نجده عند الحيوان كما نجده عند الإنسان وهو يؤثر في ردود فعل الإنسان كما يؤثر في فعله الواعي.
السلوك الناتج عن الشعور بالانتماء لا يحتاج لتبرير منطقي واضح فهو لا يعتمد على منطقنا الفردي الاعتيادي الذي نستخدمه في مسائل الرياضيات، بل يعتمد على منطق أوسع من منطق الفرد لذا لا يدرك تماماً من يقوم بفعل ناتج عن الشعور بالانتماء لماذا يقوم به؟ لأن الفعل الغريزي لا يحتاج لتبرير. لا يمكننا أن نسأل طير الحمام لماذا يُطعم (يزق) فراخه ولماذا يتعاون مع زوجه على بناء العش؟ كذلك لا يمكن أن نسأل الإنسان لماذا يأكل؟ فهو يقوم بذلك تلبية لنداء غريزة الجوع والعطش التي تُجبره من خلال منطق خفي لا يدركه على تأمين المواد الغذائية الأولية الضرورية لحياة جسمه. غريزة مشابهة أو منطق مشابه لهذا المنطق الخفي يدفع الإنسان لحماية أولاده ولحماية عائلته ويبدو أن هذا الشعور يدفع الإنسان في مرحلة متقدمة للشعور شبه الغريزي بالانتماء للقبيلة مما يدفعه لتقوية روابطها والمساهمة في الدفاع عنها كما يتشكل قطيع الثيران. ألم يقل الشاعر عن قبيلته:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
هذا الشعور الغريزي بالانتماء يدفع الثيران للتعاون والتنسيق وللتكامل حتى في الدفاع عن القطيع أمام الحيوانات المفترسة ويستطيع القطيع الحيواني المتعاون منع الحيوانات المفترسة أحياناً من التهام أحد افراد القطيع. في الصورة نرى كيف تعاونت الثيران على إسقاط الأسد الذي حاول مهاجمة أحد أفراد القطيع.
هذا الشعور بالانتماء للجماعة الذي يحدث من دون وعي الإنسان (أو الحيوان) يشبه باقي الغرائز والأفعال الفطرية يُمكّن الكائن من التعايش مع أبناء جنسه ضمن البيئة المحيطة من دون أن يكون الكائن مدركاً لأبعاد هذا التعايش.
هذا السلوك (الفطري؟) المخزون في أعماق الكائنات والذي يتعلق بمنطق أكبر من منطق الأفراد ينسق فيما بينها ويكامل بين حيواتها ينسبه المؤمن إلى هداية الله الواسع الذي ليس كمثله شيء في هذا الكون و”الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى” بينما غالباً ما يعبر عنه الملحد أيضاً من خلال تصور إرادة أكبر من إرادة الفرد يسميها (إرادة أو عبقرية الطبيعة).
يبقى أثر الغريزة عند الحيوان ثابتاً، ولكن أثرها عند الإنسان يتعقد بحسب تطور المفاهيم في رأسه. الإنسان يتميز بالعقل وبالقدرة على إعطاء الأسماء للكائنات من حوله وعلى ربط تلك الكائنات من خلال تصورات معقدة لا حدود لها في ذهنه فتتغير المفاهيم دوماً في ذهنه لتصبح أكثر تطوراً أو أشد انحطاطاً وتؤدي الغريزة أحياناً مع وجود تصورات مغلوطة دوراً معاكساً لدورها الإيجابي الأصيل. فعلى سبيل المثال فإن مفهوم الطعام يترقى مع ترقي المجتمع ويصبح فناً بحد ذاته ولذا نرى مثلاً أن طرق الطبخ في المدن هي أكثر دقة وتنوعاً منها في الأرياف ونرى أن تطور فن الطبخ في مدينة مثل حلب لهو دليل على عراقتها وعلى مكاملتها لخبرات الحضارات التي تقاطعت في الماضي عندها. ولكن عدم ترافق هذا التطور مع تطور في تصورات الكثير من الناس سيكون خطيراً على حياتهم. فعدم وعي الإنسان لضرورة التوازن بين السعرات الحرارية التي نكسبها من الأكل وبين السعرات الحرارية التي نفقدها أثناء الحركة أو العمل سيجعل الناس تستمتع بالطعام وتأكل وتسمن وهكذا سيتغير الدور الإيجابي لغريزة الجوع من تأمين العناصر الغذائية الضرورية لحياة الجسم البيولوجية إلى زيادة أمراض الناس البدنية وربما إلى انتحارها التدريجي البطيء نتيجة أمراض البدانة المفرطة التي كان يعاني منها قبل عدة سنوات عدد كبير من أفراد المجتمع الحلبي.
بنفس الأسلوب فإن غريزة الانتماء للقطيع تكون مفيدة جداً في الأصناف الحيوانية ولكن غريزة الانتماء للجماعة في المجتمع البشري تتأثر بالتصورات وبالعلاقات بين الأفراد وقد تكون هذه الغريزة مفيدة جداً حتى بشكلها البدائي في المجتمع القبلي ولكن العلاقات في المجتمع المدني الحديث أصبحت شديدة التعقيد والتراكب فهناك شبكة من العلاقات التي تنظم صلة الإنسان بجاره في المبنى الطابقي وتنظم طرق حصوله على الماء والكهرباء ومختلف مصادر الطاقة ومصادر غذائه ولتصريف مخلفاته عبر شبكة مصارف صحية وشبكة جمع القمامة وتعليم الجيل الناشئ من أبنائه عبر المدارس والجامعات و والبرامج التثقيفية وكذلك تنظيم شبكات المرور والشبكات الاجتماعية .. الخ… كل ذلك يتم من خلال تقاسم هائل للمهام بحيث يقوم الفرد غالباً بمهمة تخصصية واحدة كأن يكون تاجراً، ولكنه يحصل من خلال شبكة المجتمع المدني على كل الخدمات التي يحتاجها.
إن فهم معظم أفراد المجتمع لهذه المؤسسات ضروري جداً كي يفهم كل فرد كيف تكون مشاركته فاعلة في حركة المجتمع كذلك هي مهمة جداً كي يستطيع معرفة حدود ما يمكنه الحصول عليه من خدمات مختلف المؤسسات. إن عدم فهم الفرد لآلية عمل هذه المؤسسات وعدم فهمه لبنية المدينة ولبنية الدولة في المجتمع المدني الحديث إنما تتسبب بعملية انتحار مجتمعي بطيء. إن جهل الإنسان بتلك البنى وبقاء شعوره بالانتماء على وضعه البدائي بحالة الانتماء للقبيلة المشابهة لحالة الانتماء للقطيع إن هذا الجهل يؤدي لعملية انتحار جماعي تشبه حالة انتحار مريض السكري عندما يحاول اشباع شعوره الغريزي بالحاجة السكريات من خلال التناول المستمر للحلويات. إن سرور شخص مثلاً بحصول ابنه على شهادة مزورة لقيادة للسيارة عبر شبكة معارفه لا تعبر كما نظن عن أنانية هذا الفرد و تقديمه لمصلحته الخاصة على مصلحة الآخرين بمقدار ما تعبر عن جهل هذا الشخص أصلاً بالمعنى العميق لمصلحته فإعطاء شهادة سياقة واحدة لشخص غير مؤهل تحدث خرقاً كبيراً في المنظومة المرورية التي تؤثر على سلامة أبناء المدينة بما فيهم عائلة الشخص الذي حصل على شهادة القيادة المزورة ومن ناحية التوقع الرياضي فإن الضرر الأكبر من هذه الشهادة سيقع على حامل هذه الشهادة وعلى عائلته بالنسبة للأذى الوسطي الذي سيقع على باقي أفراد المجتمع. هذا عندما يكون الحديث عن شهادة قيادة فما بالنا بتزوير شهادة الطبيب وما بالنا بسعي أحدهم لوضع قريبه أو ابن عشيرته أو ابن طائفته في موضع الإدارة! وما بالنا بتحول هذه الآلية السرطانية في اختيار الكوادر الإدارية لتصبح هي القاعدة في إدارة المؤسسات! إن بقاء غريزة الانتماء بالحالة القبلية العشائرية ضمن المجتمع المدني المبني على المؤسسات ستؤدي على الأقل لتحويل المؤسسات إلى هياكل شكلية فارغة وستجعل من يفهم قوانين التحكم بغريزة الانتماء القبلي قادراً على التحكم بالقطعان البشرية وتسييرها وصدمها عند الضرورة ببعضها.
لا يحتاج التحكم بالجماعات البشرية إلى كثير من العناء من خلال التحكم بغريزة الانتماء خاصة عندما لا تكون مفاهيم الانتماء في رؤوس أبناء المجموعة متطورة. وغالباً ما يمكن إثارة الشعور بالانتماء القبلي عند العامة في الدول المتخلفة (وأحياناً المتقدمة) بأدوات بسيطة لتوجيههم نحو تحقيق أهداف اقتصادية أو سياسية أو عسكرية تخدم الأفراد أو المؤسسات الذين يجيدون توظيف هذه الغرائز. ومن الخوارزميات الشائعة الاستخدام في إثارة الشعور القبلي خوارزمية من أربع خطوات:
- تعميق إحساس المجموعة المستهدفة بظلم معين سواء أكان حقيقة أو خيالاً (وربما ارتكاب جرائم بحق المجموعة لتعميق إحساسها بالظلم)
- ومن ثم تفسير هذا الظلم على أنه ناتج عن الحقد من جهة ما على هذه المجموعة
- ومن ثم اختلاق تاريخ -للمجموعة يتم زج الأكاذيب فيه وتحوير الحقائق ليشعر أبناء المجموعة أن الظلم الحالي هو استمرار تاريخي للظلم الذي تعرضت له المجموعة عبر التاريخ من قبل تلك الجهة
- ومن ثم يتم توجيه هذه المجموعة لدعم تنظيم أو شخص يدعي بأنه يريد رفع الظلم عنها ويصبح العامة أداة بيد هذا التنظيم أو الشخص.
ينطبق هذا على كثير من المشاعر التي تم ويتم تشكيلها في المنطقة ومنها الشعور بالانتماء “العربي” الذي استخدم بفاعلية لتفتيت الإمبراطورية العثمانية. والشعور بالظلم الذي استثمرته المنظمة الصهيونية لجمع يهود العالم في فلسطين. والشعور بظلم الإقطاع الذي استثمره حزب “العربي الاشتراكي” من أجل التحكم بأبناء الأرياف. والشعور بظلم الطائفة النصيرية العلوية الذي استخدمه صلاح جديد ومن ثم حافظ أسد في استثمار أبناء الطائفة العلوية للتحكم بمؤسسات الدولة السورية وبشكل خاص المخابرات والجيش والوظائف الحساسة. والشعور بظلم المسلمين في العالم الذي تستخدمه معظم الحركات الإسلامية في المنطقة للحصول على الشرعية. والشعور بالظلم التاريخي الواقع على الأكراد لاستثمارهم لصالح أهداف حزب العمال الكردستاني. وفي الفترة الماضية تم حقن كل المكونات المجتمعية في المنطقة بشكل لم يسبق له مثيل وتم ارتكاب الجرائم الممنهجة بحق الكثيرين بهدف تعميق إحساسهم بالظلم القادم من الآخر وتوظيفهم في الاعتداء على الآخر الذي غالباً ما يكون لا علاقة له بالجريمة المرتكبة. ومن الأمثلة الكثيرة على ذلك: ما تزال المحاولات مستمرة لسلخ الريف عن المدينة ولسلخ شرق حلب عن غربها ولسلخ مسحيي حلب عن مسلميها ولسلخ قرى الشيعة عن باقي القرى.. الخ.. كل ذلك في منطقة بين أبنائها يوجد الكثير من القواسم المشتركة، ولكنها لم تكن أساساً تشكل وحدة مجتمعية ذات ثقافة متميزة عما حولها.
كما ذكرنا سابقاً فإن مصطلح “سوريا” مثلاً استخدم حديثاً ليدل على مساحة جغرافية متغيرة قام المستعمر بتحديدها بشكل غير واضح منذ حوالي مئة سنة وبقيت تتغير بحسب إرادة الدول الكبرى. وهذا الكلام ينطبق بنسب متفاوتة على الكثير من دول العالم الثالث. سكان هذه المساحة المسماة بسوريا لم يكونوا معزولين حضارياً خلال التاريخ عن المناطق المحيطة بها، ولكن ساكن هذه المنطقة خضع منذ سلخها عن محيطها لنظام دولة أثر تدريجياً في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية فيها وطبع سكانها مع الزمن بطابع ما مشترك، ولكنه ليس بالضرورة جامعاً. إن كلمة “سوري” تدل مبدئياً على من عاش في تلك المنطقة في العقود الماضية حتى ولو لم تكن حدود تلك المنطقة واضحة تماماً وكلمة “سوري” بالتالي لم تكن تدل على دين أو مذهب أو مستوى أخلاقي أو علمي أو على انتماء لمشروع إنساني أو حضاري معين. بل إن معظم السوريين لا يعرفون شيئاً عن البنى المجتمعية المتراكبة في المنطقة المسماة “سوريا”. ويظن معظم السوريين أن المجتمع المتراكب الذي يعيش في سوريا إنما هو عبارة عن نسخ متكررة من العائلات الصغيرة التي عاشوا فيها أو التي تحدث لهم آباؤهم عنها أو التي زرعها الإعلام المبرمج في رؤوسهم. ولكن الحقيقة أن معظم الشعب الذي يعيش في المنطقة المسماة بسورية لا يعرف الكثير عن بعضه. فعلى سبيل المثال رغم سعيي لفهم التركيبة في المنطقة منذ فترة طويلة تفاجأت قبل أيام بأن جارتي في المقعد المجاور في الطائرة هي من سريان الحسكة وفهمت منها أنهم من السريان الذين هاجروا مع الأرمن في بداية القرن الماضي واستوطن بعضهم في حلب. كنت أعرف أن الأرمن النازحين إلى حلب سكنوا في البداية في أكشاك من الصفيح سماها أهل حلب “براكات السريان” التي تحولت خلال عشرات السنوات إلى “حي السريان” ولكن يبدو أن قسماً منهم قد ذهب بعضهم الآخر إلى الحسكة ومنهم كانت جارتي في الطائرة. للأسف ليست لدي معلومات كافية عن الموضوع وللأسف اكتشفت من خلال حديثي مع جارتي بأن معلوماتها ضحلة جداً ومشوهة عن تركيبة المجتمع الذي يعيش في سوريا. ربما يكون معظم سكان المنطقة الذين يعيشون في المنطقة المسماة ب “سوريا” طيبين على المستوى الفردي، ولكن بالتأكيد ليس عندهم أي مشروع حضاري أو إنساني يجمع بينهم وبين باقي سكان سوريا وليس لديهم وعي لمهام المؤسسات التي تربط نظرياً فيما بينهم وليس لديهم أية خطة لتطويرها. إن ما يجمع بين سكان ما يسمى بسوريا هي مؤسسات الدولة المركزية التي لا يعي معظم الناس لدورها الأصلي وهم يعتبرونها جزءاً من القضاء والقدر الذي لا دور لهم فيه. وبسبب عدم وعي الناس للعلاقات التاريخية الجامعة فيما بينهم وعدم تطوير مشروع جامع يحقق مصالحهم المستقبلية العميقة فإن تقسيم هذه المنطقة سهل جداً وخصوصاً على من يعرف الفسيفساء المجتمعي شديد التنوع فيها سواء أكانت ألوان الفسيفساء الأصلية أو المختلقة تعتمد على الطائفة أو القبيلة أو العرق أو المذهب.. الخ.. في حال عدم وعي سكان المنطقة بحالهم فإن تقسيم هذه المنطقة مرهون بإرادة المؤسسات العالمية والدول التي وضعت التقسيمات السابقة التي لم تتوقف لما يسمى ب “سوريا” وخصوصاً مع العمل الدؤوب لأجهزة المخابرات العالمية والمحلية على بسط سيطرتها في الفترة الأخيرة من خلال التفعيل المبرمج لأقصى درجات التنافر بين المكونات المجتمعية في المنطقة والزرع العميق للكراهية الدينية والقومية والمذهبية والاجتماعية والاستعانة على ذلك بجرائم إبادة جماعية مستمرة وبجرائم خطف مدعومة بتغطيات إعلامية تجعل الحليم حيران لا يفهم شيئاً مما يجعل الناس مذهولين يتلقون الصاعقة وراء الصاعقة والمصيبة وراء المصيبة فلا يستطيعون تشكيل أي تصور سليم في أذهانهم مما يجعلهم مشلولين خاضعين أو موتورين يمكن بسهولة التحكم بردود أفعالهم.
صحيح أن كثيراً من الناس الذين يعيشون فيما يسمى ب “سوريا” (وليس كلهم) يشعرون بالانتماء لها ولفظ كلمة “سوريا” لديهم يحرض شعور الانتماء ل “الوطن”. ولكن هذا الشعور عند معظم الناس هو شعور بدائي انفعالي قبلي غير مرتبط بعمل مؤسسي أو بمشروع إنساني جامع لسكان المنطقة ولذا فمن السهل أن ترى شخصين يحاولان قتل بعضهما بالسلاح “الروسي” وهما يظنان أنهما يدافعان عن “سوريا”. كذلك من السهل أن ترى أحدهما يدمر مؤسسات الدولة المركزية من خلال قبوله بأن يأخذ مركزه فيها على أساس انتمائه الطائفي بينما الآخر يدمر مؤسسات الدولة المركزية من خلال اعتبارها غنائم يتم تقاسمها بحسب “مبادئ الشريعة”! كذلك من السهل أن نجد أيضاً أن هناك صراعاً بين جارين على صفحة من صفحات فيسبوك “مارك” الأمريكي حيث ينسخ كل منهما ما يراه على إحدى القنوات التلفزيونية المنتمية لحلف يعادي حلف القناة التي يتابعها جاره ويتصارع مع جاره على قضايا تحدث في حارته دون أن يكلف نفسه عناء النزول إلى الشارع لرؤية ما يحدث وللتعاون مع جاره على التحقق من الوقائع وكل منهما يدعي أن هناك مؤامرة خارجية فحسب دون أن يدرك أن الجزء الأكبر من تدمير البلد يعود لجهل أبناء البلد أو لتجاهلهم أو لصمتهم أو لنفاقهم وكذبهم ولتراكم السلبية في سلوكهم اليومي منذ عشرات السنوات. هذا السلوك الفردي الذي لا يؤدي للبناء الجماعي ينسجم مع مشاعر الانتماء التي تكرس بنية مشابهة لبنية القبيلة. ولعل ملئ صفحات الفيسبوك وأمثاله بالتعبير عن الانتماء البدائي الانفعالي هو الذي يمنعنا من استخدام وسائل التواصل في إحداث ربط فكري ضروري ولإنشاء مشاريع واقعية جامعة بين أبناء ما يسمى بسوريا وبين أبناء ما يسمى بالأمة!! إن الانتماء الواعي المنظم الهادف الذي يجعل عمل الإنسان اليومي جزءاً من مشاريع مؤسسية ضخمة هو الضامن الوحيد لتحقيق المصالح العميقة للإنسان الفرد وللجماعة وللشعوب ولمكاملة رسالة الحضارة الإنسانية عبر القرون وهذا الانتماء العملي المبني على القيم هو الذي يحقق المصلحة العميقة للأفراد والجماعات والأمم.
إن الإنسان الذي يعيش في الدول المتقدمة اليوم لا يحمل في كثير من الأحيان من الناحية المبدئية قيماً أرقى من قيم ذلك الذي يعيش في الدول المتخلفة، ولكن المواطن في الدول المتقدمة يعمل في منظومة أكثر تعقيداً وهو أكثر وعياً لدوره في تلك المنظومة. فهو يعرف أن التزامه الدقيق بعمله اليومي يؤدي إلى استمرار مؤسسته في العمل وبالتالي استمرار مصدر رزقه وهو يدرك أن انتخابه لرئيس البلدية (أو المختار) الأصلح في مدينته سينعكس خيراً على نظام المرور ونظام الحدائق ونظام التعليم وباقي الأنظمة الجماعية الذي يعود بالفائدة عليه وعلى غيره وهكذا… وهو يدرك أن مساهمته في اختيار أعضاء البرلمان سيؤدي إلى الاستفادة القصوى من الضرائب التي يدفعها كي يتحسن نظام الصحة والعلاج المجاني والنظام التعليمي والبيئي والاقتصادي في البلد والتي يستفيد منها جميعاً.
هذا في الدول المتقدمة بينما في البلدان المتخلفة يؤدي جهل وتجهيل الفرد العادي بآلية عمل المنظومات العامة إلى مفهوم مسطح للمصلحة الخاصة ولعل من المشاهد العجيبة التي كانت توقفني كثيراً في حلب هو سلوك كثير من سائقي السيارات قبيل الإفطار في رمضان حيث تتحول إحدى أدوات المدرسة الرمضانية في خلق الشعور الجماعي لدى أبناء المجتمع إلى وسيلة لخلق الصراعات فيه. حيث تحث المدرسة الرمضانية الناس على الإفطار في الوقت المحدد مما يؤدي لتوحيد لحظة الإفطار في كل المدينة ويعمق شعور الانتماء بين أبناء البشر من الصائمين، ولكن بسبب عدم وعي الناس للنظام المروري يتجاوز كثير من الحريصين على الإفطار في الوقت المناسب الإشارة الحمراء! مما يخلق في البلدان المتخلفة أزمات مرورية عجيبة قبيل الإفطار عند تقاطع الطرق تؤدي إلى حدوث الكثير من الحوادث وإلى تأخير وصول الناس لبيوتهم! وهكذا وبنتيجة الجهل بالأنظمة الجامعة للناس تتحول تؤدي التعليمات التي توحد الناس بالأصل إلى تفريقهم.
إن النظم (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها) التي يعيش ضمنها معظم ما يسمى بالشعب السوري هي نظم لم يؤسسها هو (كنظام المرور ونظام توزيع المياه والكهرباء والتواصل والمواصلات وغيرها) وهي تشغل أكثر فأكثر معظم تفاصيل الحياة اليومية للشعب السوري وغيره ولذا تنحصر تدريجياً فرصة تعبيره عن انتمائه في مجالات لا علاقة لها بنشاطه اليومي التقليدي مثل التعبير على الفيسبوك حيث يتحول الإنسان إلى الحكي عن طريق الفيسبوك و إلى الصراع عن طريق الفيسبوك وإلى القتل عن طريق الفيسبوك وإلى الانتصار عن طريق الفيسبوك.
إن منع الإنسان خلال عشرات السنوات من فهم آلية عمل المؤسسات الجامعة والمساهمة الواعية الإيجابية فيها من خلال عمله اليومي يحول شعور الانتماء لديه إلى نوع من المزايدات النظرية ويحول الانتماء من مجال الفكر والعمل إلى مجال “الحكي” الذي هو أسهل مجالات الانتماء. ولكن الأخطر هو أنه لا يدرك أن موقفه الانفعالي الذي يعبر عنه من خلال الحكي إنما هو موقف تم التخطيط له وأن موقفه الانفعالي في كثير من الأحيان المترافق مع قتل جاره بالسيارة المفخخة أو بالبرميل المتفجر أو بقذيفة الهاون إنما هو موقف يريده المجرم القاتل كي يحوله إلى مدافع عن جريمة ما سيتم ارتكابها باسم من سقط عليه البرميل أو القذيفة أو باسم من تفجرت فيه السيارة.
لا بد من أن يراجع الانسان انتماءاته ويطورها بشكل مستمر ومن الخطأ اتخاذ قرار بمعادة أو تأييد تشكيلات مؤسسات كبيرة لم نفهم بعد تركيبتها بشكل عميق وغالباً لا يمكن أن تكون مؤسسة ضخمة شراً مطلقاً أو خير مطلقاً ولا بد من فهم الجماعات والتشكيلات المجتمعية في المنطقة ووضع بناء حقيقي جامع يمكنه جمع أكبر عدد من الناس في المنطقة بحيث لا يتناقض مع المشاريع الإنسانية المتكاملة في القرية الإنسانية القادمة. إن الانتماء الانفعالي أو المنافق أو الطائفي أو القبلي أو انتماء الألم المشترك أو انتماء الصمت المشترك لن يؤدي إلى تغيير الأحوال فيما يسمى سوريا أو غيرها.
لقد قال سيدنا المسيح عندما أراد الناس رجم امرأة زانية “من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها” ويمكن أن نعمم هذا المعنى علينا جميعاً لنطلب ممن لا يستطيع صياغة أو تطوير مشروع جامع في المنطقة ألا يعترض “بالحكي” أو بغيره على من يسعون للفهم ولصياغة هذا المشروع وألا يؤيد أي جريمة قتل أو تهجير أو تعذيب ولو ظن أن فيها مصلحة طائفته أو عشيرته أو أبناء دينه أو مذهبه.